أخبار البلد - لم يكن تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benyamin Netenyahu، في 2024/6/18 والذي زعم فيه أنه "لن يكون هناك حرب أهلية في إسرائيل"،[2] إلا صدىً لنقاش يدور في الأوساط السياسية الإسرائيلية وفي مستويات رسمية وأكاديمية وشعبية قبيل طوفان الأقصى وبعده، وهو ما يتبيّن من الشواهد التالية:
1. جاء في صحيفة هآرتس في عنوان مقال في 2024/1/17، أن "على الديمقراطيين في إسرائيل الاستعداد لحرب أهلية"،[3] ثم تعود الصحيفة ذاتها في أواخر أيار/ مايو 2024 لتضع عنواناً لمقال آخر فيها هو: أنصار نتنياهو يشكّلون معلماً آخر على الطريق نحو الحرب الأهلية في "إسرائيل".[4]
2. يكتب أحد رجال الصف الأول السابقين في جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك Shabak" وهو ليور إكرمان Lior Akerman مقالاً قبل طوفان الأقصى بشهرين، عنوانه "هل الحرب الأهلية سيناريو ممكن في إسرائيل؟" عندما كانت المظاهرات الاحتجاجية تعمّ "إسرائيل" ضدّ ما سمّيَ بالتعديلات القضائية التي طرحها نتنياهو، وميّز إكرمان بيّن الحرب الأهلية Civil War، أي قوى مسلحة تعمل على السيطرة على الدولة وإسقاط حكومتها القائمة، وبين الانقلاب الأهلي أو المدني Civil Coup الذي تسعى فيه قوى معينة لتغيير النظام بالاحتجاجات والمظاهرات والعصيان المدني دون استخدام السلاح، ثم يعدِّد أكرمان الشقوق في الجسد الإسرائيلي التي تشكل مدخلاً للحرب الأهلية مثل:[5]
أ. الفجوة الإيديولوجية العميقة والصدوع الواسعة بين وجهات النظر العلمانية التعددية ووجهات النظر الدينية المحمومة التي تسعى إلى تحويل شخصية "إسرائيل"، حسب رأيه، ثم التفاوت بين الكيفية التي ينظر بها أي من الجانبيْن إلى إنفاذ القانون، إلى جانب الفارق الهائل في فهم واستيعاب جوهر النظام الديموقراطي، أو الدور الذي تلعبه مؤسساته وسلطاته عند كل طرف، وهو يرى أن كل ما سبق يوجِد أرضية ملموسة لتطور حرب أهلية إسرائيلية بالفعل.
ب. إذا كانت الحكومة مصِرّة على قناعاتها وسياساتها الحالية، وامتنعت عن اتخاذ إجراءات تهدئة وتوحيد، فمن المرجح أن تتفاقم الاحتجاجات، وأن تتعمق الهوة، وأن تتجه ردود الفعل إلى التطرف والعنف من كِلا الطرفين.
ج. إن الرفض لإعفاء طلاب المدارس الدينية من الالتحاق بالجيش وردود الفعل عليه، والنقاش الصهيوني الديني حول واجب الامتثال للأوامر بإخلاء البؤر الاستيطانية "غير القانونية" في الضفة الغربية، كل هذا يُشكّل تهديداً لقوة "جيش الدفاع" الإسرائيلي ومكانته كجيش الشعب، ويجرّ المؤسسة العسكرية إلى الخطاب السياسي على مستوى المواطنين، ومعلوم أن الجيش الإسرائيلي يتألف من قيادة واسعة النطاق للغاية تتألف من العديد من القادة الصهاينة الدينيين، ففي الانتخابات الأخيرة، صوّت العديد من الجنود لصالح الحزب اليميني المتطرف الذي يتزعمه إيتمار بن جفير Itamar Ben-Gvir، ويبدو أن الخلافات السياسية حول كيفية عمل "جيش الدفاع الإسرائيلي" في حالات الطوارئ أو غيرها من المواقف التي تقع خارج الإجماع في المجتمع الإسرائيلي بدأت تظهر بين صفوفه.
د. وبالنظر إلى كل البيانات المعروفة، واستناداً إلى تحليل الوضع الحالي، لا بدّ من التوصل إلى استنتاج "مقلق" مفاده أن "دولة إسرائيل" قد تنتهي إلى صراع أهلي عنيف يمكن له أن يتصاعد إلى حرب أهلية يشارك فيها جنود "جيش الدفاع الإسرائيلي".[6]
3. أما على مستوى القيادات السياسية الإسرائيلية، فإن هذا الهاجس من الحرب الأهلية سبق وأن تمّ طرحه من رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت Ehud Olmert، في تموز/ يوليو 2023، أي قبل طوفان الأقصى.[7] كما أن الرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتزوج Chaim Herzog حذّر من "انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية" بسبب الإصرار من تيار إسرائيلي على استمرار الاستيطان وتهجير الفلسطينيين، وطبيعة الحل مع الفلسطينيين، ومع الدول العربية، وكيفية التعاطي مع توجهات المجتمع الدولي…إلخ.[8]
4. وفي الأوساط الأكاديمية، فإن أبرز خبراء الدراسات المستقبلية في جامعة بار إيلان Bar-Ilan University الإسرائيلية البروفيسور ديفيد باسيج David Passig، تنبّأ بحرب أهلية في "إسرائيل" في كتبه ومقالاته منذ سنة 2005،[9] ويستند باسيج إلى التجربة التاريخية اليهودية وتكرار الحروب الأهلية في تلك التجربة لمرات متعددة يستعرضها تباعاً،[10] ويتوقع حدوثها مرة أخرى في "إسرائيل" سنة 2040، يقول ما نصّه حرفياً: [11]
"إن الكيانات السياسية والقومية التي نشأت على نحو مماثل لدولة إسرائيل شهدت أعمال عنف بعد ثلاثة أو أربعة أجيال، وهذا هو ما أستند إليه في تنبؤاتي، وفي أغلب الأحيان، يبدأ الأمر باغتيال زعيم، ثم بحرب أهلية، ويحدث ذلك عندما يبدأ العامل الموحد للبلد في التفكك، والنتيجة ليست فقط صدامات مستمرة في الهيئة التشريعية، بل وأيضاً العنف الذي يؤدي إلى مقتل العشرات.
(…..)
فمن بين كل المجموعات التي اجتمعت لبناء هذا المنزل-إسرائيل-، كان لكل منها وجهة نظر مختلفة. وفي مرحلة ما، بدأ هذا الغراء الذي كان يشكل جزءاً من الماضي يتلاشى، كما حدث أيضاً مع مجموعات أخرى عبر التاريخ.
(…..)
على مدار التاريخ تقريباً، نشأت أغلب المجموعات داخل الشعب اليهودي نتيجة لعمليات خارجية، بدءاً من الممالك وصولاً إلى الصهيونية، وفي نهاية المطاف فإن الصهيونية انعكاس للعملية القومية في التاريخ البشري، وقد استخدم اليهود هذه العملية لتحقيق تطلعاتهم الوطنية، والعمليات الخارجية تتغير طوال الوقت، لذا فإن القول بأن "الصهيونية باقية إلى الأبد" خطأ، لأنها انعكاس لعمليات خارجية، وعندما تتغير الأشياء في الخارج، فإنها تتغير أيضا في الداخل."
5. وهذا الهاجس من الحرب الأهلية لا يقتصر على القادة والإعلاميين والمفكرين بل ولدى الرأي العام الإسرائيلي؛ الذي عبّر في آخر استطلاع رأي إسرائيلي حول الحرب الأهلية عن خشيته من وقوعها بمعدل 46%، بينما ارتفعت النسبة في استطلاع سابق على طوفان الأقصى إلى 58%، وإلى 67% في استطلاع ثالث.[12]
ويبدو أن ثلاثة وقائع حدثت خلال الفترة 2023–2024 أسهمت في إيقاظ الهاجس من الحرب الأهلية في "إسرائيل"، وهي:
1. التعديلات القضائية التي اقترحتها حكومة نتنياهو وعدّها التيار المقابل انقلاباً على الشرعية، مما جعل المظاهرات الاحتجاجية في الشارع الإسرائيلي منظراً مألوفاً وشبه يومي خلال فترة ما قبل الطوفان.
2. موضوع الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، والذين تمّ أسرهم خلال الأيام الأولى من معركة طوفان الأقصى، وما أثاره فشل حكومة نتنياهو في معالجة القضية وإعادتهم، مما تسبّب في احتجاجات متواصلة ومتزايدة ضدّ الحكومة والمؤسسات الأمنية، وتراشق القيادات العسكرية والسياسية الاتهامات لبعضهم حول الفشل.
3. احتدام النقاش بين التيارات السياسية والثقافية في "إسرائيل" حول قضية تجنيد اليهود المتدينين، خصوصاً من يطلق عليهم الحريديم، وهو الأمر الذي كان من ضمن تداعيات طوفان الأقصى.
الإطار النظري لتحليل الحروب الأهلية عالمياً:
طرح نسيم نيكولاس طالب Nassim Nicholas Taleb نظرية "البجعة السوداء" ليعني به كيفية معالجة موضوع الوقائع غير المتوقعة وذات التأثير الكبير على الظاهرة موضوع الدراسة المستقبلية، كما أنه طوّر نموذجاً كميّاً لكيفية التنبؤ بهذا المتغير.[13] فإذا كانت الحرب الأهلية هي من ضمن الظواهر المتوقعة في بعض المجتمعات، فإن الأدبيات السياسية الغربية والإسرائيلية والعربية لم تتعامل، في معظمها، مع هذا الاحتمال في "إسرائيل" إلا في السنتيْن 2023 و2024، كما أشرنا في مقدمة هذه الدراسة، فهل طرح موضوع الحرب الأهلية في "إسرائيل" يمثل حالة خاصة ويندرج ضمن مفهوم البجعة السوداء، أم أنها تندرج في سياق اتجاه Trend عالمي تنامى في العقود القليلة الماضية؟
يجمع باحثو العلاقات الدولية على أن عدد الحروب الأهلية يتزايد منذ الحرب العالمية الثانية،[14] وتربط أدبيات العلاقات الدولية في تفسير هذا التزايد بعوامل عدة أهمها وأبرزها هو تسارع التغيّر والترابط في المجتمع الدولي بفعل التطور التكنولوجي والذي يكشفه المنحنى السوقي Logistic Curve من ناحية، يقابله من ناحية ثانية فقر ميكانيزمات التكيّف لمواجهة تداعيات التغير المتسارع ، ولعل هذه الهوة بين تسارع التغير وتعقيدات التكيّف هي التي تحدد مستقبل النظام السياسي والبنية المجتمعية السياسية، وهو ما جعل الكثير من المنظرين في العلاقات الدولية وعلم الاجتماع السياسي يربطون بين الحروب الأهلية وبين هذه الهوة بين التغير المتسارع والتكيّف معه.[15]
وتعزز المؤشرات الكمية موضوع تزايد الحروب الأهلية، فخلال الفترة 2001-1950، بلغ المتوسط السنوي العالمي لاندلاع حرب أهلية جديدة نحو 1.6 حرباً، مع متوسط عام لمدة استمرار الحروب الأهلية تصل إلى 5.5 عام، وإذا تبين أن هذين الاحتمالين مستمران، فإن الإسقاط projection يشير إلى أن معدل عدد الحروب الأهلية سنوياً على مستوى العالم سوف يستقر في نهاية المطاف عند نحو 12 حرباً، وهو ما يعادل تقريباً المعدل العالمي في السنوات 2023-2015 الماضية.[16]
من جانب آخر، فإنه خلال الفترة 1991–2015 تضاعف تدخل الدول الخارجية في الحروب الأهلية 10 أضعاف، حيث تدخلت القوى الأجنبية في 40% من الحروب الأهلية، وهو ما يحوّل الحرب من حروب أهلية إلى حروب هجينة؛ أهلية ودولية.[17]
لكن إشكالية التدخل الخارجي، أو تدويل الحرب الأهلية، هي في تحديد هل يزيد التدخل الخارجي من عنف واتساع قاعدة الحرب الأهلية أم أنه يدفع القوى المحلية إلى التقارب فيما بينها؟ وتشير أغلب الدراسات إلى أن التدخل الخارجي يفاقم مستوى العنف ويوسع جغرافيته ويزيد الشرائح المنضوية في الحرب الأهلية،[18] لكن الأمر يقتضي التنبه إلى أن التدخل الخارجي يرتبط بتحالفات بين قوى داخلية وقوى خارجية، لأسباب مختلفة، ولكن الأمر في "إسرائيل" يتباين عن هذه النماذج المألوفة؛ إذ إن التدخل الخارجي، إذا اعتبرنا محور المقاومة طرفا خارجيا، فإنه من منظور إسرائيلي، يدفع للتضامن الداخلي ويمتص التناقضات الداخلية، إذ إن تدخل محور المقاومة، أو جبهة المساندة، يجعلها خصماً لكل أطراف الخلاف داخل المجتمع الإسرائيلي، بينما في التدخلات الخارجية المألوفة في الحروب الأهلية تكون الأطراف الخارجية نصيراً لقوى محلية على حساب قوى أخرى، وهو الأمر الغائب في الحالة الإسرائيلية.[19] وهو ما سنعود لدلالاته لاحقاً في هذه الدراسة.
من جانب آخر، يمكن الاستناد لنموذج ديفيد دوركهايم David Durkheim في الربط بين الحروب الأهلية وبين نمط "الترابط العضوي؛ التقني والاقتصادي بين المجتمعات وداخلها، والترابط الآلي؛ الدين، والقومية، واللون…إلخ، mechanical and organic solidarity" في المجتمعات المعاصرة، إذ إن الترابط العضوي يضعف من قوة الترابط الآلي في المجتمع، ولما كان الترابط العضوي في ظلّ ميكانيزمات العولمة يتزايد بوتيرة عالية، فإن الترابط الآلي سيقاوم ذلك، وهنا يقف المجتمع أمام احتمال تفكك عُراه الآلية.[20]
أسباب الحروب الأهلية ودرجة توافقها مع الحالة الإسرائيلية:
يمثل الصراع العربي الإسرائيلي ظاهرة فريدة من حيث توصيفه، فهو يجمع أغلب مظاهر الحروب المعتمدة في دراسات الحروب، فلو اعتمدنا تعريف معهد السلام النرويجي للحروب Norwegian Peace Research Institute Oslo’s (PRIO)، سنجد أربعة أشكال، هي:[21]
1. حروب التحرر من الاستعمار: وهو أمر ينطبق على الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين المحتلة.
2. حروب دولية: وهو ما يمكن تطبيقه على الحروب العربية الإسرائيلية كلها إضافة لإيران في الوقت الحالي.
3. حروب أهلية: ففي منظور بعض التيارات السياسية الإسرائيلية فإن الانتفاضة الأولى والثانية، والمواجهات مع فلسطينيي 1948، أو بين المستوطنين والمواطنين الفلسطينيين تمثل من وجهة نظر هذا التيار حروباً داخلية في الدولة نفسها.
4. حروب هجينة (أهلية ودولية): يمكن اعتبار الصراع العربي الصهيوني من أكثر النماذج وضوحاً للتدخل الدولي والإقليمي العسكري في مسيرته؛ حروب 1948 و1956 و1967 و1973… وحتى الآن، وقد أوضحنا في دراسة سابقة لنا أن الإقليم العربي يحتل المرتبة الأعلى بين بقية الأقاليم الجيوستراتيجية العالمية من حيث معدل الاختراق الخارجي.[22]
وتُعدّ الحرب الأهلية، موضوع دراستنا هذه، من ضمن الظواهر السياسية التي عرفتها أغلب المجتمعات، وتتفق أغلب الدراسات الأكاديمية على تحديد متغيرات وأوزان هذه الظاهرة على النحو الوارد في الجدول التالي: [23]
جدول رقم 1: متغيرات الحروب الأهلية، وأبرز متغيراتها الفرعية، وأوزانها النسبية [24]
(يمكنكم الاطلاع على الجدول على موقعنا)
تطبيق: الحالة الإسرائيلية:
استناداً لما أشرنا له في مقدمة هذه الدراسة من هواجس وتنبؤات لشرائح مختلفة في المجتمع الإسرائيلي بخصوص احتمالات الحرب الأهلية، من الضروري بداية أن نحدد ملامح المجتمع اليهودي في فلسطين من زاوية "الهويات الفرعية". ويُظهر الجدول التالي أن التشظي في المجتمع اليهودي في "إسرائيل" موجود بشكل واضح، وعبّرت عنه هذه الشرائح في مناسبات عديدة، ويكفي التأمل في الجدول التالي:[25]
جدول رقم 2: التنوع الإثني في المجتمع الإسرائيلي [26]
(يمكنكم الاطلاع على الجدول على موقعنا)
ذلك يعني أن درجة التجانس في المجتمع الإسرائيلي من حيث التنوع الإثني والاقتصادي والسياسي يحتاج لتأمل دقيق، فالانتماء لليهودية لا ينفي التباين في مستوى هذا الانتماء، فالتنافر في مستوى الانتماء الديني يتجلى في التدخل في اللباس، وفي الالتزام بعطلة السبت، وفي ممارسة الطقوس الدينية، وفي الالتحاق بالجندية، وفي التمييز بين من له أبوين يهوديين وبين من أحد والديه يهودي، مما يوجد تمييزاً بين اليهودي والإسرائيلي، وهو ما حدا ببعض الدراسات المقارنة بين الوضع الإسرائيلي قبل طوفان الأقصى وبين الوضع الأمريكي قبل الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر؛ خصوصاً من زاوية "قوانين الرق التي قبلت لبعض الولايات دون غيرها".[27]
كما يكشف الجدول السابق التعدد الإثني الكبير في المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يقدم حالة نموذجية لنظرية التجزؤ الهرمي Pyramidal-Segmentary التي ترى أن الفرد قد ينتمي لولاءات تراتبية فهو مثلاً يهودي لكنه سفارديمي، وهو أسود اللون من إفريقيا لكنه إثيوبي…إلخ. وترى هذه النظرية أنه في حالة حدوث تنازع بين ولائه الأعلى وولائه الأدنى فإنه ينجذب باحتمال أعلى نحو الولاء الأدنى على حساب الولاء الأعلى،[28] وعليه تصبح القاعدة أنه كلما تزايد عدد طبقات هرم الولاءات تزايدت احتمالات التنازع، وتشير الدراسات التطبيقية إلى أن 64% من الحروب الأهلية كان سببها الرئيسي هو الهويات الفرعية.[29]
وعند التأمل في نماذج قياس مؤشر التجانس الإثني العام، الديني والقومي واللغوي…إلخ، نجد أن "إسرائيل" تحتل المرتبة 74 بين 160 دولة بمؤشر 0.526، أي أنها في منطقة وسطى من حيث مستوى التجانس الإثني.[30]
ويترافق مع مستوى التجانس الإثني عوامل مساعدة أخرى لتعزيز احتمالات الحرب الأهلية؛ مثل الفقر الذي يميز الدول الضعيفة مالياً وبيروقراطياً ويسهم أيضاً في تجنيد المتمردين، وعدم الاستقرار السياسي، والتضاريس الوعرة، والأعداد الكبيرة من السكان.[31]
وتسعى الدراسات المتخصصة في الحروب الأهلية إلى إيجاد معامل الارتباط بين متغيرات الثقافات الفرعية وبين مستوى نزعة العنف داخل المجتمع على أساس هذه التنوعات، وتبين أن أعلى معدل ارتباط كان بين المتغير الجغرافي أولاً، ثم المتغير الاجتماعي ثانياً، ثم الاقتصادي ثالثاً، وأخيراً المتغير السياسي، انظر الجدول رقم 1.
ونظراً لأن تعريفات الحرب الأهلية تقوم على متغيريْن هما استخدام السلاح بين الحكومة وثقافة فرعية معينة أولاً، وأن يصل عدد القتلى إلى ألف قتيل فأكثر، فإن قياس المتغيرات الحاكمة في "إسرائيل" تجعل معدل نسبة احتمال وقوع الحرب الأهلية في "إسرائيل" هي 0.403، أي دون المتوسط.[32]
لكن النسبة التي وصلنا لها تشير إلى أن احتمال تراجعها أو تزايدها مرتبط بحدة النزاع مع محور المقاومة في الوقت الحالي ومع البيئة العربية بشكل عام، وهو ما يعني أن العلاقة بين حدة النزاع العربي الإسرائيلي وبين نشوب الحرب الأهلية بين اليهود داخل "إسرائيل" هي علاقة عكسية، لكن الأمر ليس بالمطلق، فمن بين العوامل التي يمكن أن تفجر حرباً أهلية بين اليهود في "إسرائيل" هو طبيعة التسوية التي ستقبلها "إسرائيل" للصراع العربي الإسرائيلي، فالمجتمع الإسرائيلي يرفض حل الدولتين بنسبة 65%، ناهيك عن الانقسامات بين سكان المستوطنات وبقية المجتمع الإسرائيلي خصوصاً ما يُعدّ يسارياً صهيونياً، وهو ما سبق وشهدنا نموذجاً مصغراً له في إخلاء اليهود لمستوطنة ياميت Yamit في صحراء سيناء سنة 1982، إخلاء نحو ستة آلاف مستوطن وتدمير نحو 600 منزل، أو إخلاء المستوطنات من قطاع غزة سنة 2005.[33]
الربط بين مستوى النزوع للعنف ومتغيرات إثارة الهويات الفرعية:
تكشف دراسات الترابط بين المتغيرات الحاكمة لظاهرة الحرب الأهلية وبين مستوى التعبير عن التباينات والمطالب، احتجاج سلمي أو عنيف أو حرب أهلية…إلخ، أن المتغير الجغرافي، بمؤشراته الفرعية المشار لها في الجدول رقم 1، هو العامل الأعلى وزناً في تعزيز حراك الهويات الفرعية، وعليه إذا حسبنا معدل مستوى الاحتجاج الخاص بالعمل المسلح، الحرب الأهلية، في "إسرائيل" استناداً إلى الأوزان النسبية في الجدول السابق سنجد أن المعدل يصل إلى 0.403، أي دون المتوسط، بينما معدل المتغيرات عالمياً هو 0.651، كما يتضح في الجدول رقم 3.
جدول رقم 3: العلاقة بين مستوى نزعة العنف ومؤشرات التعبير عن النزعة الانفصالية للإثنيات [34]
(يمكنكم الاطلاع على الجدول على موقعنا)
ولكن من الضروري ملاحظة أن المتغيرات الأكثر قوة في الحالة الإسرائيلية هي في المتغيريْن الاجتماعي والاقتصادي، دون غضّ الطرف عن بعض الأهمية للعامل السياسي، خصوصاً في المجالات التالية:[36]
1. تزايد معدل عدد الأحزاب المبنية على أساس الهويات الفرعية؛ الدين، وبلد المهجر، والمصالح الضيقة…إلخ، فالمعدل تزايد بين نهاية التسعينيات حتى سنة 2021 من 21 إلى 32 حزباً.
2. تراخي الالتزام العقائدي لصالح تنامي النزعات .
3. تزايد عدد مرات حلّ الكنيست Knesset خلال فترات متقاربة، الأربعة أعوام الأخيرة عرفت خمسة انتخابات برلمانية.
4. تزايد دور الأحزاب الصغيرة نظراً للتوجه المتزايد لإنشاء حكومات إئتلافية تكون رهينة مواقف هذه الأحزاب الصغيرة.
5. تآكل دور الأحزاب الكبرى ذات النظرة المجتمعية لحساب الأحزاب الصغرى "القطاعية".
6. تراجع مؤشرات الحاكمية طبقاً لمؤشرات البنك الدولي.[37]
فإذا طبقنا نموذج الدراسة المقدمة إلى رابطة العلوم السياسية الأمريكيةAmerican Political Science Association والخاصة بالعلاقة بين الإثنية والحروب الأهلية، فإن أي تغير في المتغيريْن، الاجتماعي والاقتصادي، قد يؤثر على احتمال وقوع الحرب الأهلية في "إسرائيل"، فإذا زادت الهوة في معدلات الدخل بين الهويات الفرعية الإسرائيلية فإن احتمال تزايد النزوع للحرب الأهلية قد يرتفع نظراً لمعدل الارتباط العالي بين المتغيريْن طبقاً للنموذج المذكور، والذي تمّ تطبيقه على 161 دولة في فترة تمتد إلى 54 سنة، خلال الفترة 1945–1999.[38] وتشير المعطيات إلى أن "إسرائيل” تحتل المرتبة 64 في معدل عدالة توزيع الدخل بنسبة تتراوح بين 0.38 و0.39 لمؤشر جيني سنة 2023،[39] كما أن مستوى الاستقرار السياسي تراجع بشكل واضح ليبقى في دائرة السالب وبشكل أكبر – 1.29،[40] مما يضعها في مرتبة "وسطى – عليا" قد تؤهل لتعزيز احتمال نشوب حرب أهلية بنسبة أعلى مما وصلنا له أعلاه وهو نسبة 0.403.
الخلاصة:
ثمّة تباين وجدل أكاديمي حول المتغير الرئيسي في نشوب الحروب الأهلية، لكننا نستطيع تقسيم هذا الجدل إلى ثلاثة اتجاهات:[41]
1. اتجاه اعتبار التنوع في الهويات، الدينية والقومية واللغوية واللون والمذهبية…إلخ؛ وهو المتغير الرئيسي.
2. اتجاه يرى أن سوء توزيع المزايا، الدخل، والمناصب العليا، والتمييز لأي سبب بين القطاعات المجتمعية كالريف والحضر، وبين الأقاليم…إلخ؛ هو الأكثر فاعلية في إشعال الحروب الأهلية.
3. اتجاه ثالث يرى أن توفر "الفرصة" للتمرد من قبل القطاعات المتذمرة لأسباب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية هو الأهم، فقد أوضحنا في دراسة سابقة أن المتغير الجغرافي يمثل العامل الأكثر أهمية في توفير فرص التمرد، ويشتمل هذا المتغير الجغرافي على مؤشرات فرعية هي: وجود الأقلية على حواف الدولة، وتجمع الأقليات المتذمرة في تلك المنطقة، وظهور مورد اقتصادي مهم في منطقة الأقلية.
غير أن المنظور الكلاني holistic يرى أن التفاعل بين كل مكونات الظاهرة هو الذي يحدد احتمالات الحرب الأهلية من عدمها، وهو ما يستدعي وضع مصفوفة للتأثير المتبادل بين مكونات الظاهرة، وخصوصاً العلاقة بين فرص تفجر الصراع الداخلي في المجتمع الإسرائيلي وبين الشعور بالتهديد الخارجي على المجتمع والكيان السياسي، وتدل استطلاعات الرأي الإسرائيلي قبل طوفان الأقصى على مستويات ثقة أمنية متباينة عند المقارنة بين متغيرات الأمن الداخلي، التباينات الداخلية، وبين متغيرات الأمن الخارجي، التهديد الإقليمي أو الدولي، وهو ما يتضح من أن نسبة الإحساس بالخطر الخارجي المستقبلي في سنتي 2022-2021، أي قبل طوفان الأقصى، كانت تتراوح بين الخوف من الخطر الإيراني أما داخلياً فالقلق من الاستقطاب الاجتماعي، التنوع الإثني، وعدم قدرة المؤسسات القائمة على معالجته بلغ 62%، وعند النظر إلى مجمل المخاطر تبيّن أن مجمل المخاطر الداخلية حظيت بموافقة 66% مقابل 27% للمخاطر الخارجية، كما أن الثقة في مؤسسات الدولة خصوصاً الخشنة منها تتراجع من حيث قدرتها على مواجهة الأخطار الداخلية. أما أهم الجوانب الداخلية إثارة للقلق الإسرائيلي فهي العلاقة بين عرب فلسطينيي 1948 واليهود 43%، ثم الانقسام الآيديولوجي، يسار ويمين: 24%، ثم الفروق الاقتصادية 13%، ثم الانقسام الديني العلماني 12%، وأخيراً الانقسام داخل الهوية الفرعية نفسها 4%.[42] لكن اللافت هو ارتفاع القلق من البيئة الخارجية بعد طوفان الأقصى، إذ إن 61% من المجتمع الإسرائيلي يعتقدون أن الحرب ستتسع إلى دول أخرى، وهو ما قد يضعف من دور المتغيرات الداخلية باتجاه الانقسام المجتمعي والصراع الداخلي.[43] ويتعزز الشعور بالخطر الخارجي من الاعتقاد بتراجع مكانة "إسرائيل" دولياً، إذ يرى نحو 60% من الإسرائيليين أن "إسرائيل" أصبحت تحظى باحترام أقل في العالم، وهو ما يعزز القلق من الخارج على حساب القلق من المتغيرات الداخلية.[44]
لكن من الضروري التنبه لمسألة مهمة تتعلق بنتائج الصراع الحالي بين محور المقاومة و"إسرائيل"، إذ إن تزايد الضغط على المجتمع الإسرائيلي أمنياً قد يدفع إلى طرح فكرة القبول بتسوية ما، وهو ما قد يفجِّر الصراع الداخلي بين الإسرائيليين حول مشروع التسوية، لا سيّما أن موضوع الدولة الفلسطينية في حدود 1967 تمثل نقطة تباين حاد في المجتمع الإسرائيلي من ناحية، وأصبحت هي الأكثر رواجاً في الديبلوماسية الدولية، لكن اليمين الإسرائيلي ونحو أكثر من ثلاثة أرباع المليون من المستوطنين في الضفة الغربية يعارضون هذا الحل بقوة، مما قد يفجِّر الصراع الداخلي في مستوى معين.
إن ما سبق من عرض للتحولات المحتملة، يُشير إلى أن التحليل الذي توصلنا له باحتمال الحرب الأهلية في "إسرائيل" هو 40.3%، قابل للتغير نحو الأعلى إذا تضافر عاملان معاً وهما: قدرة المقاومة على الصمود في قطاع غزة من ناحية، واتساع تأثيرات الخطر الخارجي مع تنامي قبول المجتمع الدولي بحل الدولتين من ناحية ثانية، مما يسبب اتساع الاستقطاب السياسي والاجتماعي في "إسرائيل" للتعامل مع هذا الاحتمال، ويرى بعض الباحثين بأن "إسرائيل" ستجد نفسها في مواجهة مع المستوطنين في الضفة الغربية في حالة إقرار هذا الحل، وهو الاحتمال الذي سيقود لمواجهات تحاكي الحرب الأهلية، وتغذيها سلطة حاكمة على أسس ثيوقراطية متزمتة تتناقض تماماً مع الأسس التي ادّعى إعلان "الاستقلال الإسرائيلي" تبنيها،[45] ولعل هذه الصورة تمثل الهاجس المركزي في تفكير القوة السياسية الحاكمة في "إسرائيل"، مما سيزيد هذه القوة نزوعاً نحو مزيد من العنف في الحرب الحالية مع محور المقاومة.
ذلك يعني، أن صمود محور المقاومة بشكل عام وثبات المقاومة في غزة بشكل خاص سيعزز من فرص تنامي التوجه الدولي والعربي نحو الضغط على "إسرائيل" لقبول تسوية للصراع العربي الصهيوني، ولعل هذا هو المتغير المركزي الذي سيجعل من نسبة 40.3%، القائمة على عدم التجانس الإثني الداخلي، تتزايد بفعل الانقسام العميق داخل هذه التنوعات الإثنية تجاه مضمون التسوية للصراع العربي الصهيوني، وهو ما يتضح تماماً في أن الرأي العام الإسرائيلي يرى في الخلافات الداخلية، تأثيرات التجانس من ناحية وعدم التوافق على مشروع تسوية معيّن للصراع من ناحية ثانية، خطراً يصل إلى 66% مقابل 27% ممن يرى أن الخطر مرتبط بالخارج.
البجعة السوداء في المستقبل الإسرائيلي
د. وليد عبد الحي