في كل انتخابات رئاسية ايرانية جديدة تضج وسائل الاعلام ومراكز الدراسات وتحليل السياسات العربية والغربية بالتنبؤات والتوقعات حول مسار المتغيرات السياسية الإيرانية مع قدوم أي رئيس جديد واليوم وبعدما وصل الإصلاحيين إلى سدة الرئاسة في الجمهورية الإسلامية في ايران بفوز ( مسعود بزشكيان ) يتحدث الكثيرين بأمل عن توجهات وسياسات السلطة الحاكمة الجديدة بان تكون مختلفة كليا عن فترة حكم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي على المستويين الداخلي والخارجي والذي منذ تولّيه أعلى منصب في السلطة التنفيذية قبل ثلاث سنوات بعد انتهاء ولاية حسن روحاني اتخذ نهجً دبلوماسي يتماشى على نحو وثيق مع رؤية المرشد الأعلى للجمهورية السيد علي الخامنئي
التجارب الرئاسية الماضية والواقع الملوس يشيان بغير ذلك كون أي متغيرات مرتقبة ترتبط بسقوف محدودة ويتحكم في مساراتها بشكل كامل المرشد الأعلى بموجب نظام الثورة الإسلامية المعمول به في ايران وهو ما عرفته العواصم الغربية والدولية منذ انطلاق الثورة عام 1979 وخلال فترة حكم كل من الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني حيث لم تحصل أي متغيرات جوهرية كبيرة في السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية كما انه في الاصل لا يسمح لرئيس الجمهورية بالانفتاح المُطلق واللامحدود والذي يعتبر خطر مستفحل على فكر ووجود ايران مع الاعتراف بان هناك مصلحة إيرانية حقيقية ومهمة في فتح الابواب لإعادة العلاقات مع الدول الغربية وانجاز المصالحات الاقليمية والتعاون الاستراتيجي السياسي والاقتصادي مع بعض الدول العربية خاصة الخليجية منها
وضرورة استمرار تمتين العلاقات والتحالفات مع الصين وروسيا وتركيا حيث شهد عهد الرئيس الراحل رئيسي نجاحا في بعض تلك المحطات على المستوى الاقليمي الاّ ان المأمول والمنتظر من الرئيس المنتخب بزشكيان هو زيادة توثيقها وتوسيعها وتأطيرها بكل مصداقية وثبات خصوصا في السعي الجاد نحو ازالة العقوبات الخارجية وبناء علاقات تعاون مع الدول النافذة والمؤثرة في العالمً دون اغفال اهمية الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمعيشية الداخلية لإمكانية النهوض بالبلاد
الملاحظ عمليا في هذه الجزئية انه على الرغم من أهمية موقع رئاسة الجمهورية كرأس للسلطة التنفيذية أي الحكومة إلا أن موقع القرار الحاسم والمتحكم في كل القضايا يتمثل بالمرشد الاعلى الذي يعين من قبل مجلس الخبراء والذي يشغل منصبه حتى وفاته الا في ظروف استثنائية محددة ( الجميع يستظل عباءة المرشد ويطلب رضاه ورعايته ) ولهذا لم يحصل أي تهديد للقيادة والحكم وعمل المؤسسات والاجهزة الرسمية في المشهد الإيراني بعد وفاة رئيسي ووزير الخارجية حسين امير اللهيان بالرغم من هول المصيبة وشدتها حيث استلم على الفور محمد مخبر نائب الرئيس شؤون الرئاسة وكلف علي السيد باقري بشؤون وزارة الخارجية ووقد حدد موعدا لأجراء الانتخابات دون اي معوقات وتم انتخاب رئيس جديد اصلاحي بنزاهة وشافية والمهم هنا ان نعلم بان نصوص الدستور الإيراني لا تترك أي مجال للتأويل أو للفراغ في أي موقع رسمي هام حيث تسمح بشكل تلقائي بملء أي فراغ دون أية مشاكل دستورية اضافة الى إن المرجعية الحاسمة لموقع المرشد الاعلى تستطيع أن تؤمّن اجواء ملائمة من الطمأنينة والاستقرار عند أي استحقاق او معضلة تطال البلاد مهما عظم شأنها
النظام الإيراني كأيدولوجية ونهج جيني وسياسي استطاع بحزم وقوة بناء قواعد المؤسسات القيادية وترسيخ منظومة عمل أجهزة الدولة وادارة مؤسساتها بكل إنسابية وعدم التأثر جوهريا باي أزمة او مرحلة مهما كانت صعبة او مفاجئة وبالتالي فان قدوم أي رئيس للبلاد وبأي هوية او توجه سيكون محدد الصلاحيات ومقدوره ممارسة حد معين من التكتيكات الداخلية والمناورات الخارجية دون أي تغيير او مساس بمرتكزات وثوابت الدولة العميقة وهذا ما على الغرب ان يفهمه جيدا قبل ان يفرك يديه فرحا بقدوم رئيس يمثل التيار الاصلاحي او يظهر الخشية والفزع عند فوز أي من اتباع التيار المحافظ المتشدد
كما ان هنالك في النظام القيادي والسياسي الايراني عدة سدود حصينة وبوابات دفاعية متينة تقف في وجه أية محاولة لاختراق النظام أو التمرد عليه او إسقاطه تتمثل في ( مجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور مع مجلس النواب وموقع المرشد ودور الحوزة الدينية والأجهزة العسكرية والحرس الثوري والدولة العميقة في الجيش والقضاء والتعليم خاصة الجامعات ) وهي مستعدة بحذر ومدربة بكفاءة للتعامل مع استمرارية التشدد الغربي والأميركي تحديداً اللذان ينظران بالشك والريبة إلى التجربة الإيرانية في الحكم القائمة على أساس ديني ( الفكر الشيعي الاثني عشري ) وولاية الفقيه التي بموجبها يتسلم المرشد الاعلى القيادة والسلطة والمرجعية كنائب للإمام الغائب المهدي المُنتظر محمد بن الحسن العسكري وبالرغم من كل ذلك لا زالت امريكا وبعض الدول الغربية تعمل في الدهاليز المخابراتية والمؤامرات المشتركة على محاولة اسقاط الحكم في ايران بكل الوسائل بعد فشل محاصرته ومحاولات عزله التي لم تجدِ نفعاً خاصة بعد بروز تيارات وافكار دولية وسطية تنادي بالتعاون مع إيران والقبول بالحقائق والوقائع والتحولات السياسية القائمة فيها كحل بديل وأفضل لسياسات العداء معها
العالم بأجمعه راقب مشهد جنازة الرئيس ابراهيم رئيسي الحاشدة ورفاقه عبر مسيرات التشييع وحجم الحضور الدولي في تقديم العزاء حيث كانت اكبر دليل على رسوخ مبادئ وقواعد النظام والاحتضان الشعبي لتياره والالتفاف حول مؤسسات الدولة والقيادة مع وجود عدم الرضى الداخلي لبعض الفئات كما بعثت بعدة رسائل سياسية مهمة إلى الغرب تحديدا والمعارضين في الداخل بعدم اثارة الاحتجاجات كتلك التي حصلت بعد الاضطرابات التي أعقبت مقتل الفتاة مها أميني بسبب قضية الحجاب وكذلك الى الخارج الذي يرعى أنشطة المعارضين وخصوصاّ جماعة مجاهدي خلق المتواجدة حاليا في البانيا بعد خروجها من العراق
لسياسة الخارجية في مختلف أنحاء العالم لا تمليها وزارة الخارجية بل مستويات السلطة الأعلى وكذلك الحال في ايران فهي ترسم بالتنسيق والشراكة بين المُرشد الأعلى والمجلس الأعلى للأمن القومي الذي يتألف من الرئيس والوزراء الرئيسيين والقادة العسكريين وأعضاء اخرين يسميهم المرشد شخصياً حيث يناقش مجلس الأمن القومي الملفات المتعلقة بالأمور الدفاعية والسياسة الخارجية ثم يقدم المقترحات بشأن تنفيذها للمرشد كي يوافق عليها وبدون موافقته الشخصية لا تصبح سارية المفعول بتاتا
بعد فوز جراح القلب بزشكيان البالغ من العمر 69 عام بالرئاسة الإيرانية بعد حصوله على نحو 54 بالمئة من أصوات الناخبين خلال الجولة الثانية بعد سنوات من هيمنة المحافظين على الرئاسة تعهد بالسعي الجادً لفتح حوار مع الغرب لتحسين العلاقات وتسوية الخلافات مع القوى العالمية الكبرى لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 والتخفيف من وطأة العقوبات على بلاده لان من شأن ذلك أن يحدث حراكًا للاقتصاد الإيراني بالأضافة الى تبني سياسة خارجية عملية وتحسين آفاق الحريات الاجتماعية والتعددية السياسية
على الرغم من أي نوايا صادقة او سياسات عملية قد يتحلى بها الرئيس الاصلاحي الجديد فان العقبات التي ستواجهه كبيرة ومعقدة وقد تعطل برنامجه وتفشل مهماته خاصة وكما اسلفنا انقا ان الكلمة الحاسمة في هذا الشأن للمرشد الإيراني ناهيك عن التأثير لبعض القوى المحافظة والمتشددة المتغلغلة في مختلف مفاصل الدولة الهامة يضاف الى كل ذلك نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة التي سيكون لها تأثير سلبي على السياسة الخارجية والداخلية الايرانية في حال فوز الرئيس السابق ترامب وترافق ذلك مع صعود اليمين المتطرف في بعض الدول الاوروبية الرئيسية
الجمهورية الاسلامية الايرانية دولة رئيسية ومحورية في المنطقة والعالم وتحظى بموقع استراتيجي هام جدا حيث شكلت في الماضي القريب والبعيد حاجزاً بين الكتل الدولية المتصارعة ولهذا كانت اراضيها ساحة تنافس شديد خلال الحرب الباردة بين امريكا والاتحاد السوفياتي السابق وقد استخدمت جغرافيتها كمفصل جيوسياسي في اكثر من مرحلة ومن المفيد ان تستعيد ايران دورها الريادي وان تحافظ على مكانتها المرموقة ومواجهة العقبات والتحديات بالحكمة غير المفرطة والحزم غير المتشدد في ظل الاجواء المشحونة بالكراهية والعداء مع معظم دول العالم
كاتب وباحث متخصص في العلوم السياسية
mahdimubarak@gmail.com