من مظاهر العصر الحديث العسرةُ المالية التي تطبق على خناق الناس في كثير من اقتصادات العالم. وحتى في الدول التي تتمتع بفائض تجاري، وبدرجة جيدة من الاحتياطات الرسمية بالعملات الأجنبية، نرى ضجراً وبَرماً من الناس عامة، يشتكون فيها من عدم توفر السيولة وعسرتها. فما علاقة الفائدة وسوق الائتمان غير الرسمي؟
بتاريخ 16 إبريل/ نيسان، نشر كل من إسحق ديوان وفيرا سونجوي (Diwan and Songwe) في مجلة إيكونومست البريطانية مقالاً بعنوان ترجمته إلى العربية "أزمة السيولة في دول العالم الثالث لم تنته بعد" أو (Developing Countries Liquidity Crisis is not Over). والمقال رصين يقول إن هذه الأزمة احتدّت عامي 2022 و2023، وازدادت عمقاً عام 2024 بسبب قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) برفع أسعار الفائدة الأساسية، ما حدا بكثير من الدول النامية والغنية إلى رفع أسعار الفوائد.
وكان آخر تلك القرارات قد أشرنا إليه في مقالة الأسبوع الماضي وهو رفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي، الذي شرحت ذلك رئيسو البنك كريستين لاغارد مباشرة عبر وسائل التواصل الإلكترونية وغيرها.
ومن المفروض عند رفع أسعار الفائدة أن تقل حركة دوران النقود من يد إلى يد، ومن صندوق إلى آخر لأن سعر الفائدة هو غرم أو سعر يدفعه الراغبون في الاقتراض من أجل الإنفاق على الاستهلاك أو الاستثمار. وأما بالنسبة لمن يتمتعون بفوائض مالية فيشعرون أن الفرصة الضائعة عن عدم استثمار النقود في ودائع ادخار أو لأجل قد ارتفعت تكاليفها، ولذلك فهم يفضلون إبقاءها على شكل استثمار في أوراق مالية يسهل تسييلُها وتحقيق ربح معقول بأدنى درجة من المخاطرة.
من هنا، فإن الإقبال على السندات ذات المديين القصير والمتوسط يزداد على حساب التراجع في الإقبال على السندات طويلة الأجل ذات المخاطر الأعلى. وهذا يسمى بمنحنى الإيراد المقلوب أو (Inverted Yield Curve).
ونحن نستطيع أن نتنبأ بصفتنا اقتصاديين إلى درجة معقولة من الصوابية بردود فعل الاستثمارات المختلفة في أسواق النقد والمال داخل الأسواق الرسمية المنظمة. لكن للعُسرة المالية جوانب اجتماعية، وخاصة في الدول النامية لا تتصدى لها الدراسات بشكل علمي مقنع.
وأذكر أنني ترأست وفداً من ستة عشر خبيراً أرسلهم "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" (UNDP) من أجل القيام بدراسة لتقييم التنمية في دولة بنغلادش عام 2003. وقد قابلت ثلاثة من رؤساء بنوك الفقراء ومنهم صاحب المبادرة الدكتور محمد يونس والذي يعود له الفضل في تأسيس بنك غرامين (Grameen Bank). وقد بين لي أن المرابين في القرى كانوا يعطون قروضاً صغيرة للفقراء (20-30) دولاراً مقابل فوائد سنوية تصل نسبتها إلى 1300%.
وكان الفقراء يسددون أصل القرض، لكن يعجزون عن تسديد الفوائد. وحينها يقوم المُرابي بالاستعانة أحياناً بأشرار كبار القامة من أفغانستان وظيفتهم إكراه المقترضين من الفقراء على تسديد الفائدة بإعطاء المُرابي مدخراتهم أو بقرتهم أو حتى الزوجة إن لم يجدوا بديلاً آخر. ومن تلك البدائل قطع شجرة أو نقلها من حظيرة المقترض إلى مزرعة المقرض.
والطريف في الأمر هنا، أن بنك غرامين كان يضع نسبة (26%) على شكل فوائد على القروض التي يقدمها للفقراء لكي يشتروا منوالاً يغزلون به، أو آلة طباعة قديمة، أو حتى ماكينة خياطة. ورغم أن رقم 26% هو رقم ضئيل قياساً إلى ما يتقاضاه المرابون (1300%) إلا أنه كبير قياساً إلى ما تتقاضاه البنوك من فوائد في ذلك الوقت على المقترضين منها وهو (12%) فقط. ولكن نسبة السداد لدى البنوك كانت في حدود (82%) أما عند الفقراء الذين يقترضون من بنوك الفقراء فقد بلغت نسبة الوفاء والسداد أكثر من (98%) من المبالغ المقترضة.
لكن هذا المنطق لم يعجبني أبداً، وشممت رائحة فساد في الموضوع. أما في الوقت الحاضر، فإننا نلاحظ أن الناس في الوطن العربي خاصة يلجؤون إلى وسائل كثيرة للتحايل على إجراءات البنوك المركزية ورقابتها الصارمة على البنوك التجارية. فهنالك دوائر حكومية في القطاعين المدني والعسكري بدأت تمنح قروضاً للعاملين لديها وعلى حساب الاقتطاع المباشر من رواتبهم قبل تحويلها إلى حسابات المقترضين من البنوك، وبفوائد أقل من تلك التي تتقاضاها البنوك.
وحيث إن البنك قد منح القرض أصالة بكفالة تحويل كامل الراتب المستحق للموظف، فإن قيام المؤسسة التي يعمل فيها الموظف بالاقتطاع المسبق وتحويل مبالغ أقل للبنوك بات يؤثر على حياة الموظف وأسرته، ويجعله غير قادر على السداد أو الاقتراض في الفترات التي يرتفع فيها الإنفاق عند بداية السنة الدراسية، أو في شهر رمضان والأعياد، أو زواج أحد أفراد الأسرة.
وأما الظاهرة الثانية، فهي أن الناس باتوا يلجؤون إلى الأصدقاء والأقارب طلباً لدين قصير الأجل، ويقوم المقترض بكتابة شيك لحساب الدائن الذي يودع هذا الشيك لدى البنوك حتى يقوم البنك بإجراء مقاصة مع البنك المسحوب عليه الشيك. وفي كثير من الأحيان يتصل هذا الصديق بالذي أقرضه طالباً منه تأجيل سحب المبلغ غير المتاح وقت الاستحقاق. وقس على ذلك من أمثله.
أما المشكلة التي تخلق سوقاً للائتمان غير الرسمي والذي لا يدخل في حسبة البنوك المركزية فهو المنافسة الحادة بين القطاعين العام والخاص على القدر القليل من النقد المتاح في السوق. ويعقد المشكلة النقدية سلوك الحكومات إبان فترات العسرة النقدية حيث تقبض يدها عند دفع مستحقاتها، وتتنمر على دافعي الضرائب ومشتري الخدمات الحكومية لكي يدفعوا.
ضرائب منخفضة وإيرادات عالية
وما يزيد من شكوى المواطنين هو أن الحكومة ترفض أن تعمل تسويات مع الأفراد، أو مقاصة بين ما هي مدينة به لدافعي الضرائب وما يستحق لها من ضرائب ورسوم غير مدفوعة. وهذه المعاملة اللاتماثلية تجبر كثيراً من المواطنين على الاقتراض لتسليك أمورهم في الدوائر الحكومية، علماً أن الدائن لم يكن مضطراً لفعل ذلك لو أن الحكومة قامت بسداد ما يستحق عليها نحوه.
ولذلك دخلنا نحن في كثير من الدول النامية في مأزق ابن خلدون الذي قال إن الدول في بداياتها تفرض ضرائب منخفضة، ولكنها تجني إيرادات عالية. والسبب في رأيه يعود إلى أن المواطن لا يشعر أن عمله وجهده يجلبان عليه غرماً عالياً من الضرائب والمكوس.
أما في نهايات الدول، فترتفع الضرائب وتقل الإيرادات العامة لأن الناس يفقدون حافزيتهم للعمل، لأن جزءاً كبيراً من دخلهم يذهب للحكومة. وقد وجد بعض الباحثين الاقتصاديين أمثال آرثر لافر (Laffer) الذي استعان بابن خلدون ليرسم منحنى الضرائب على شكل جرس مقلوب. ويبين فيه ببساطة أن هناك حداً من نسب الضريبة يصل التحصيل فيه إلى أعلى مستوى ممكن. أما إذا رُفعت نسبة الضريبة بعد ذلك، فإنّ الإيرادات سوف تتراجع، والعكس كذلك صحيح.
1% في العالم يملكون 90% من ثروته
ونحن نعيش الآن في عالم مليء بالحروب والعنف والفقر والجريمة، خاصة في الدول النامية. ولم يشهد العالم عبر تاريخه الطويل سوءاً في توزيع الدخل والثروة كما يشهده الآن. ورغم تفاوت نسب التملك والاستحواذ على الثروة بين باحث وآخر، إلا أن الكل مجمع على أنه الأسوأ في تاريخ البشرية وأن أغنى 1% في العالم يملكون نحو 90% من ثروة العالم المتاحة.
هؤلاء فاحشو الثراء لم يصبحوا كذلك لأن كعكة الثروة قد كبرت، ولكن الواضح أن نظم التكنولوجيا الحديثة وسيطرتها على التدفقات السلعية والخدمية والمالية في العالم هي التي مكنت من أن يملك فرد واحد ثروة تساوي دخل عشرين دولة نامية من أفقر دول العالم.
أمام هذا الفقر، فإن سوء التوزيع مرشح للاستفحال. فنحن نرى أن "السلطان الحقيقي" في دنيا الاقتصاد هو الذي يستحوذ على النقد أو قادر على الوصول إليه. ومن يملك النقد صار قادراً على شراء ثروات كثيرة من العقار والأسهم والسندات والاستثمارات والحسابات بأسعار بخسة نسبياً. وهذا سوف يؤدي إلى زيادة الفقر داخل الدول وبينها.
ونقص (الكاش) هو الذي سيدفع بالسوق غير الرسمية للنمو والتوسع لأن الفقراء محرومون من الحصول على حاجتهم من المال من المؤسسات المرخصة والمسؤولة.
نحن أمام معضلة كبيرة جداً في الاقتصاد العالمي.
ومثلما حصل في العالم في القرن الماضي، فقد أدى الكساد الذي بدأ عام 1929 إلى الحرب العالمية الثانية، فإن اتساع فجوة الفقر والحرمان في العالم الآن ستكون كارثة كبرى ما لم نتداركها بنظم مالية أكثر رفقاً بالإنسان، أو لَها وجه إنساني على الأقل.
فاحشو الثراء لم يصبحوا كذلك لأن كعكة الثروة قد كبرت، ولكن الواضح أن نظم التكنولوجيا الحديثة وسيطرتها على التدفقات السلعية والخدمية والمالية في العالم هي التي مكنت من أن يملك فرد واحد ثروة تساوي دخل عشرين دولة نامية من أفقر دول العالم.