في الوقت الذي تتفاوت فيه التقديرات والاجتهادات حول ما ستؤول إليه الأمور في سورية، لا تشرح أوضاع معظم الدول العربية البالَ ولا تسر الخاطر. ولنأخذ مثلاً دولاً ما عدنا نتذكر أنها عربية، علماً أن اعتزازها بهذه الهوية قوي جداً. ولعل موريتانيا تأخذ الصدارة في هذا الأمر. ويعتبر الموريتانيون أنفسهم حُماة اللغة العربية والدين الإسلامي في غرب أفريقيا. وهم يعتزون بأنهم " بلد المليون شاعر".
ولكن هذه الدولة شهدت انقلابات عديدة منذ تحررها من الاستعمار الفرنسي عام 1960، وفيها من الخيرات الكثير مثل السمك والماشية خاصة الأغنام، والإبل، وفيها الحديد والذهب واليورانيوم وغيرها. ولكن 90% صحراء، وعاصمتها نواكشوط تؤوي ثلث السكان، أو (1.5) مليون نسمة. وهي الآن مستقرة نسبياً تحت إدارة الرئيس محمد وِلد الغزاوي الذي انتقل إليه الحكم عبر الانتخابات وبسلاسة منذ عام 2019. فهل نطمع أن تبقى الأمور كذلك؟
أما البلد الثاني المنسي من هذه الدول العربية فهو جزر القمر، الدولة العضو في الجامعة العربية منذ عام 1993، والوحيدة التي تقع في جنوب الكرة الأرضية. وقد أتيحت لي زيارتها مرة واحدة العام 2017 لأحمل رسالة من الملك عبد الله الثاني، عاهل الأردن إلى رئيس جزر القمر تضمنت دعوة الرئيس عثماني غزالي لحضور مؤتمر القمة الذي عقد في مدينة العقبة على ساحل البحر الأحمر في الأردن.
وجزر القمر فقيرة، ويشعر أهلها أنهم منسيون تماماً وليس في عاصمتها "موروني" سفارات عربية إلا القليل مثل قطر والسلطة الفلسطينية. وتتكون الدولة من ثلاث جزر من أرخبيل القمر، وما تزال تطالب بجزيرة " مايوتي " ( Mayotte) الغنية بالمعادن والتنوع الطبيعي العظيم، والتي ما تزال تحت الحكم الفرنسي رغم وعد فرنسا بإرجاعها. ومع أن مساحة هذه الجزيرة لا تتجاوز 370 كيلومتراً مربعاً وسكانها حوالي 750 ألفاً غالبيتهم مسلمون، إلا أنها تشكل أحد الموارد الأساسية للزهور المستخدمة في فرنسا لصناعة العطور.
وتعتبر جزر القمر واحدة من أفقر الدول العربية على الإطلاق. ولولا بعض الاستثمارات القطرية، فإنها تعتبر دولة منسية على الشاطئ الشرقي من قارة أفريقيا (المحيط الهندي). وتراها من الجو بارعة الجمال، ولكنك لما تنزل إليها، فإنها تبدو كطفلة من لوحة للفنان الأميركي هنري دارغر (Henry Darger).
أما ثالث البلدان العربية المنسية، والذي لم يدخله إلا قلة من العرب فهو الصومال الذي دخل في حرب أهلية لم يفق منها بعد رغم وجود محاولات جادة أسفرت عن تحسن في معدل دخل الفرد. إلا أن الصومال ذات الـ 19.2 مليون نسمة ما زالت تعتبر واحدة من الدول ذات النمو الأدنى في العالم، ويقدر معدل دخل الفرد فيها حوالي 700 دولار في العام، ولكن قيمته الشرائية تعادل 1610 دولارات.
وما تزال الصومال معتمدة في اقتصادها على الزراعة 40% وأهم حاصلاتها الموز والأغنام، وفيها بعض الصناعات التقليدية مثل النسيج الذي كان يصدر معظمه إلى سورية والعراق. والمشكلة الأساسية في الصومال ذات التاريخ العريق وصاحبة الإمبراطورية التجارية التي عرفت بسلطنة مقديشو بين القرنين العاشر والسادس عشر وسيطرت على التجارة في الذهب والتوابل في شرق أفريقيا أنها عانت حرباً أهلية طويلة امتدت من عام 1972 حتى العام 1993، والتي ما يزال فيها كتائب من دول أعضاء في اتحاد الدول الأفريقية لحفظ الأمن والسلام.
وقد سافرت مرتين في حياتي إلى الصومال كان آخرها العام 2017، وقد نزلت في فندق نُصحت فيه ألا آكل الخضار وأستعيض عنها باللحم المشوي فقط. ولكن الصومال على الرغم من غناها بالموارد الطبيعية، وكونها كانت من أغنى الدول العربية بالثروة الحيوانية وببعض المعادن، إلا أنها ما تزال في حاجة إلى إسناد ودعم عربي.
وأثناء زيارتين لي في كينيا، تعرفت إلى عدد من الوزراء كان اثنان منهم صوماليين (وزير الخارجية ووزير التربية والتعليم) من الذين ولدوا في دولة كينيا. والصوماليون قادرون على التحول الكبير نحو التصنيع الزراعي، وصناعة النسيج، وغنية بالمعادن وتربتها مثل تربة معظم دول شرق أفريقيا في حاجة إلى الأسمدة الفوسفاتية والبوتاسية.
أما رابعة الدول العربية المنسية فهي جيبوتي الواقعة على القرن الأفريقي فقد حصلت على استقلالها من الفرنسيين الذين استردوها بوصفها جزءاً من الصومال عام 1977. ويسمى سكانها العفر والعيسى وهم من أصول صومالية وأثيوبية. وقد زرتها أربع مرات. وكانت أول زيارة لي العام 1984 حملت فيها رسالة من المغفور له الملك الحسين بن طلال إلى الرئيس الجيبوتي آنذاك "حسن جوليد ابتيدون".
والعجيب أن رحلتي إلى جيبوتي بدأت من عمان إلى فرنسا، ثم من فرنسا على متن طائرة " إير فرانس" سافرت إلى مدينة جيبوتي العاصمة مروراً فوق الأردن والعقبة لأصل إلى جيبوتي، علماً أن المسافة بين عمان وجيبوتي هي حوالي 4500 كم. بينما المسافة من عمان إلى باريس 4445 كم تقريباً. والمسافة بين باريس وجيبوتي هي 6735 كم، وبمعنى آخر فإنني قطعت أكثر من ضعفي المسافة بين عمان وجيبوتي بسبب نقص وسائل الطيران المباشر بين الدول العربية آنذاك.
وقد تطورت جيبوتي في الآونة الأخيرة تطوراً ملحوظاً، ففيها عدد من القواعد العسكرية منذ أن بدئ بتطوير مينائها الذي اكتسب أهمية متزايدة بسبب الصراع بين الدول العظمى على النفوذ فيها بسبب موقعها الاستراتيجي المهم معبراً للتجارة الدولية، خاصة بعد الحرب الأهلية في اليمن، وتهديد الملاحة في باب المندب.
ولما زرتها عام 1984 صادف أن زارها لأول مرة الراحل القائد الفلسطيني ياسر عرفات، والذي استقبل استقبالاً حافلاً من قبل الشعب وفي البرلمان الجيبوتي. ولم يكن فيها آنذاك سوى قاعدة فرنسية وفندق واحد.
وبسبب استقلال إريتريا عن إثيوبيا، وضياع ميناء أسمرة أصبحت إثيوبيا بلداً برياً ليس له إطلالة بحرية. ولهذا أنشأت الصين خط سكة حديد طوله 800 كم من العاصمة أديس أبابا إلى جيبوتي. وقد حضرتُ تدشينه من الجانب الجيبوتي. ولكن رئيس الوزراء الإثيوبي "أبي أحمد" غير راض ألا تكون إثيوبيا بدون ميناء تابع لها على البحر الأحمر. وقد يهدد هذا الأمر الأمن في منطقة شرق أفريقيا، ويوترها إلى حد الحرب. وبهذا تكون العلاقات الإثيوبية العربية عرضة للتصعيد والتوتير إلى حد الحرب بسبب سد النهضة الإثيوبي من ناحية والخلاف حوله مع كل من السودان ومصر، ومع إريتريا على البحر الأحمر، واحتمال توسعه ليشمل دولاً أخرى مثل الصومال والسودان وجيبوتي.
الدول الأربع التي ذكرناها تبلغ مساحتها على شاطئ أفريقيا 1.7 مليون كيلومتر مربع. وعدد سكانها حوالي 25 مليون نسمة، واللافت للنظر هو أن هذه الدول الأربع التي يجهل كثير من طلابنا موقعها أو اسم عاصمتها هي دول هشة، ومعرضة دائماً للقلاقل والغزو. ومن أهم سمات الهشاشة هي التفاوت الكبير بين الثروات المتاحة فيها ومعدلات الفقر الواسعة بين سكانها.
وما يسهم في هذا الموضوع هو قلة السكان وتركزهم في المدن، خاصة العاصمة في الوقت الذي تبلغ فيه مساحتها حوالي 15% من مساحة الوطن العربي، فإنها لا تشكل حالياً سوى 5% من مجموع سكان الوطن العربي. وهذا ما يبقيها عرضة لطمع الجيران والدول الإقليمية وغيرها.
إن أمن هذه الدول مهم لتأثيره المباشر على أمن البحر الأحمر، والذي بات يشكل جزءاً أساسياً من أمن الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية التي تقوم بتحديث اقتصادها على ركائز من أهمها الاستثمارات المطلة على البحر الأحمر. وكذلك تشكل موريتانيا حالة من التمسك بعروبتها وتفتخر بتاريخها العائد إلى الأمويين الذين دخلوها في القرن السابع الميلادي. والأمر المهم أن هذه الدول قد حظيت بمشروعات جيدة من قبل الشركة العربية للتعدين، ولكن أي تطلعات لاستخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء مستقبلاً فإن العناصر المشعة في هذه الدول ستصبح ضرورة قصوى.
آن الأوان أن يفتح العالم العربي الغني بالموارد المالية والبشرية خزائنه وأن يقوي تعاونه مع هذه الدول لما للتعاون معها من فوائد لا يتسع ذكرها هنا.