"كان يا مكان في سالف العصر والأوان" إلخ، وجمل أخرى شبيهة بها مثل "بلغني أيها الملك السعيد ذو العقل الرشيد والعمر المديد"، أو دعاؤنا لبعضنا أو لشيوخنا "طال عمرك"، أو "يا طويل العمر" تُعلمنا حقيقةً أساسيةً أننا في أعماقنا ندرك أن "رصيد الوقت" الذي نحظى به محدود، وأنه رغم الدعوات بطول العمر يبقى قول الشاعر كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة في مدح الرسول محمد عليه السلام وطلبه العفو عنه (البردة) صحيحاً: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته... يوماً على آلة حدباء محمول.
ومن الشعراء من قسّم الوقت ووظائفه، مثل قول الشاعر امرئ القيس حين أُبلغَ عن مقتل والده "اليوم خمر، وغداً أمر". ونحن نتحدث عن حُسن إدارة الوقت. ونقبل بنصيحة أينشتاين التي يقول فيها "الأفضل أن تذهب إلى موعد مبكراً ثلاث ساعات من أن تتأخر دقيقة واحدة".
ويدور في الأردن حالياً نقاش طويل حول كفاءة نظام النقل العام. ولقد أثار النقاش الذي شاهدت ثلاث حلقات منه موضوعين رأيت أنهما مهمان للغاية. الأول هو أن عمّان إن بقي السير والاكتظاظ على نفس النمط الحالي فيها ستتحول شوارعها كلها قريباً إلى كراجات للوقوف وليس للسير.
وإن بدا هذا الاستنتاج في ظاهره مبالغاً في تعبيره، إلا أنه صحيح. أما الأمر الثاني والمهم فهو ضرورة بناء نظام نقل عام دقيق في مواعيده عند كل محطة، أو أن ينصاع النقل لأداء الخدمة عند كل موقف وعند كل ساعة من ساعات اليوم وبدقة.
زحمة السير وغياب الدقة في المواعيد
وبسبب اكتظاظ السيارات في الطرق، وغياب الدقة في المواعيد، فقد أصبح الانتقال من البيت إلى العمل وبالعكس يستغرق بالمعدل ثلاث ساعات في اليوم. وهذه الساعات ليست سهلة على الموظف الذي لا يثق بدقة مواعيد النقل العام فيلجأ إلى شراء سيارة وسياقتها بنفسه. ولما يصل مكان العمل فإن من المرجح أن يكون قد ارتكب مخالفة سَيْر، أو تورط في حادث اصطدام، أو حصل حادث داخل نفق يحول دون الوصول إلى مكان العمل.
ولأن كل سائق في ساعات الذروة يريد الوصول للعمل مع بداية الدوام، فإنه يتحول إلى سائق مناكف وأناني، أو أنه يمر بعدد من الحالات التي بالكاد ينجو فيها من الوقوع في حادث سير. ولذلك يصل إلى مكان العمل مرهقاً متوتر الأعصاب، ما يؤثر على سلوكه وعلى فاعليته ورغبته في أداء واجباته الوظيفية ويصل البيت مساءً مرهقاً، وأطفاله مرهقون، وزوجته إن كانت عاملة يخالجها نفس المشاعر الحساسة، ويصبح الجو مشحوناً.
عمل الظّل
ويصادف هذا كله أنه طُلب مني قبل عدد من السنوات أن أكون محكماً لمجلة اقتصادية دولية. وقد كتب باحث راغب بالنشر ورقةً علميةً بعنوان "عمل الظل" أو Shadow Work. وبموجب البحث، فإن الكاتب يقول إن عمل الظل هو جهد كبير يبذله العامل أو الموظف في طريقه إلى العمل والعودة منه، ولكنه لا يحسب ضمن ساعات الدوام.
ولذلك وصل إلى القناعة بضرورة دفع رواتب عنها "نصف أجرة العمل العادي"، أو تقليل ساعات العمل من ثماني ساعات إلى سبع في اليوم. وفي رأيه أن هذا لن يؤثر على حجم الإنتاج.
تصنيف الدول حسب إدراكها لأهمية الوقت
وقد نشرتُ بحثاً قبل أكثر من أربعين عاماً، اقترحت فيه أن يجرى تصنيف الدول حسب إدراكها لأهمية الوقت عن طريق مؤشرات مثل اللغة المستخدمة في تحديد المواعيد، الالتزام بالمواعيد والبرامج المحددة سلفاً، وصغر وحدة الزمن التي نستخدمها. وقد وجدت أن هناك فرقاً شاسعاً في الإنتاجية بين من يقولون "نتقابل هالأسبوع"، أو "بكره بعد الظهر"، أو "لا بدري ولا متأخر"، ومن يقول من جهة أخرى "موعدنا غداً الساعة الثامنة إلا خمسة".
والدقة في استخدام مقياس الوقت مثل "هذه عملية تحتاج إلى 67 دقيقة"، أو أن تقول "ساعة وسبع دقائق"، أو "ايش يعني تأخرنا ساعة زمان، هيه الدنيا طارت"، وبين من يقول "آسف على تأخري دقيقة، لأن المصعد معطل وصعدت الدرج ماشياً".
أعذار التأخر في الوطن العربي كثيرة، ولكنها غالباً لا تصدر عن أناس صادقين في الاعتذار. والأنكى من هؤلاء من يتعمد القدوم متأخراً لاعتقاده أن القدوم في الوقت المتفق عليه يقلل من قيمة مقامه الكبير، هذه كلها أعذار واهية.
والأمم التي لا تحترم الوقت، تتأثر إنتاجيتها بذلك كثيراً. وقد قمت بمراجعة جدول أعدته منظمة العمل الدولية قاست بموجبه معدل قيمة إنتاج ساعة العمل في 63 دولة عام 2019، وأعادت الكرة ثانية عام 2023 ومعيدة تقييم الإنتاج لكل ساعة عمل حسب القدرة المعادلة الشرائية الدولية للدولار في كل بلد، أو ما يسمى Purchasing Power Parity ( PPP)".
ولا بد من تفسير هذا المبدأ الذي ابتكره الفيلسوف وعالم المنطق الاسكتلندي David Hume الذي عاش بين عامي 1711 و1776، وكان مزامناً لآدم سميث أبي الاقتصاد الحديث، ومات هيوم في نفس العام الذي نشر فيه آدم سميث كتابه "ثروة الأمم". وديفيد هيوم يقول "نحن نقيس الناتج المحلي الإجمالي في الصين بالدولار حتى نستطيع مقارنته بالناتج المحلي بالدولار في دول أخرى". وعليه، يكون الناتج المحلي الإجمالي الأميركي الحالي حوالي 26 تريليون دولار، أما في الصين فهو 18.5 تريليون دولار.
معادلة تكافؤ القوة الشرائية
ولكن القوة الشرائية للدولار في الصين أعلى منها في الولايات المتحدة. ولذلك يحولون الدولارات حسب معادلة تكافؤ القوة الشرائية لتكون المقارنة ذات معنى. وإذا طبقنا معادلة القوة الشرائية "PPP" فقد يكون الناتج المحلي الإجمالي في الصين أعلى منه في الولايات المتحدة. ولكن حسب معدل دخل الفرد فإن المبلغ في الصين يتوزع على 1.4 مليار شخص، بينما في الولايات المتحدة على نحو 340 مليون شخص فقط، أو ربع سكان الصين تقريباً.
وبعد تعديل الأرقام تبين حسب الدراسة الأشمل لعام 2023 أن أكثر دول العالم إنتاجية لكل ساعة عمل مبذولة هي في لوكسمبورغ والتي بلغت 146.1 دولاراً مكافئاً، والثانية إيرلندا 142.5، وأتت من بعدها النرويج، فهولندا، فالدنمارك، فسويسرا، ثم بلجيكا ومن بعدها النمسا وسنغافورة والسويد وغويانا ثم الولايات المتحدة في المرتبة الثانية عشرة، ثم فنلندا وألمانيا وفرنسا التي بلغت قيمة انتاج ساعة العمل فيها 67.9 دولاراً أو أقل من نصف رقم لوكسمبورغ.
ولما عدت لأكبر خمس عشرة دولة إسلامية، فقد وجدت أن السعودية التي كان ترتيبها عالمياً رقم 26 من أصل 181 دولة قد جاءت في المركز الأول، ومن بعدها قطر في المرتبة الثانية إسلامياً والسابعة والعشرين دولياً، ومن بعدها البحرين، فدولة الإمارات، ثم تركيا في المرتبةً 45 دولياً ثم الكويت 47 دولياً، ومن بعدها سلطنة عمان مباشرة، وجاءت ماليزيا في المرتبة 63، وإيران في المرتبة 69، ومصر 82 وجيبوتي 85 والجزائر 86. أما الأردن فجاءت في المرتبة 89 بإنتاج يعادل 16 دولاراً تقريباً في الساعة.
الوقت.. والأزمات في الوطن العربي
دراسات الوقت تصلح لدراسة الأزمات في الوطن العربي. فالعالم اليوم يتحدث في الدوائر العلمية المتقدمة عن تطورات تجري في عوالم في منتهى الصغر، وتستغرق من الوقت حوالي جزء واحد من 150 مليار جزء من الثانية الواحدة.
ويتساءلون: هل هذا الزمان المتفاني في الصغر هو زمان حقيقي (real time)؟ إن التطورات في الطب تتعامل مع عوالم صغيرة جداً مثل neurons التي يطلقها الدماغ بأوامر للحركة والتنفس والكلام والنبض، وغيرها. ونعلم أن الميتاكومبيوتر Metacomputer يستطيع إجراء كل أنواع الحسابات في فروع العلم المختلفة وبسرعة خارقة لا تصدق.
صدق من قال: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، أو "الوقت رصيد ثابت ونادر"، وكلنا على مستوى الأفراد والجماعات مطالبون باستثماره بشكل أفضل.
نشرتُ بحثاً قبل أكثر من أربعين عاماً، اقترحت فيه أن يجرى تصنيف الدول حسب إدراكها لأهمية الوقت عن طريق مؤشرات مثل اللغة المستخدمة في تحديد المواعيد، الالتزام بالمواعيد والبرامج المحددة سلفاً، وصغر وحدة الزمن التي نستخدمها.