قراءة أوراق الثورة الطلابية لسنة 1968، تدفع لتفاؤل حذر حول نتائج الانتفاضة الجارية في الجامعات الأمريكية لمناصرة الفلسطينيين، لتوظف في مصلحة البحث عن وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، ولكن ذلك لا يعني أنها ستحقق أهدافا أوسع من ذلك في المدى البعيد، فالطلبة سيذوبون بعد ذلك في المؤسسات التي تشكل السياسات الأمريكية، ويصبحون كيانا مفتتا تحت وطأة النظرية الكبرى للعلاقات الأمريكية على المستوى الدولي.
مينوش أو نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا، هي أحد منتجات هذه المؤسسات العميقة، أو المؤسسة اختصارا، كما تدعى في بريطانيا، The Establishment، ويقابلها في دول أخرى مفهوم الدولة العميقة، ولأن عضويتها في المؤسسة ضعيفة وهشة، لأنها أحد الدخلاء الذين تسمح لهم الظروف بالدخول في المؤسسة وحيازة مواقع متقدمة داخلها، بين وقت وآخر، كانت الأكثر عصابيةً وانفلاتا في ردود أفعالها، فاستدعت الشرطة لتقتحم الحرم الجامعي لواحدة من أعرق الجامعات الأمريكية وأكثرها ارتباطا بالتيارات الفكرية والسياسية، وبدأت بعد ذلك حملة أوسع تشمل روحا من التحدي، من أجل الوقوف ضد المجازر (الإسرائيلية) في قطاع غزة، والتضامن مع طلبة كولومبيا.
من جديد تفرض نفسها نظرية مالكوم إكس، حول عبيد المنازل، الذين يحصلون على فرصة خدمة السيد في منزله، فيقومون بالعناية بالتنظيف والطعام والملابس، ويأخذون لأنفسهم ملابس موحدة أنيقة، وينامون في غرف دافئة، ويظهر تعبيرهم عن الامتنان لحصولهم على فرصة خدمة السادة في المنزل، في ممارسة أبشع أنواع القمع على بني جلدتهم من عبيد الحقل، ولو حدث واتخذ السيد موقفا متعاطفا مع عبيده، فالعبد المنزلي سيستمر في ممارسة عنفه واحتقاره الذي يتحول إلى استراتيجية نفسية تجعله متماهيا مع السيد، ومغلقا أي طريق لعودته بين العبيد في الحقل. تخدم شفيق مصالح كبرى تقف وراء الأسباب المباشرة للحرب على غزة، ووراء إنشاء (إسرائيل) نفسها، مصالح لا توجد بصورة مباشرة في نصوص التاريخ، التي تزدحم بمقولات الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، بينما يكون السبب الحقيقي هو حرية الملاحة والسيطرة على الموارد والعمالة الرخيصة، والاتفاقيات التجارية المجحفة وأسعار العملات وغيرها من الأسباب، وهذه المصالح لم تتمكن الدول العربية من مقاربتها، سوى مع حظر النفط العربي عن الدول الحليفة لإسرائيل سنة 1973 لتضع الاقتصاد العالمي في مسارات خطرة ومقلقة. ستتوقف الحرب في غضون أيام أو أسابيع أو أشهر، وسيكون للطلبة في الجامعات الأمريكية دورهم في ذلك، ولكن الآلة الكبيرة ستلتهم روحهم الثائرة مع الوقت، خاصة أن معظمهم مرشحون للالتحاق بالمؤسسات الكبيرة، التي صنعت الوضع الراهن وتعمل على صيانته، فالانتفاضة الطلابية تجري في جامعات النخبة التي تزود المؤسسات بحاجتها من الكوادر لإدارة المعادلة المعقدة لإدارة العالم وثرواته، وسيبقى السؤال الفلسطيني معلقا، لأنه بحاجة لأوسع من مجرد انتفاضة طلابية، ولأن أصحاب السؤال والمفوضون بالبحث عن إجابة عنه أمام العالم، لا يبدون بوصفهم كتلةً يمكنها التأثير على المزاج العالمي، أو إحداث أي تغيير حقيقي يتطلب المراجعة لتقديم التنازلات المطلوبة من قبل القائمين على معادلة إدارة العالم بالصورة الحالية.
التعويل على الأنظمة العربية لا يبدو رهانا صائبا، فالجامعة العربية التي كانت حتى الثمانينيات تقدم الحد الأدنى من المواقف المشتركة، والالتزام الأدبي لم تعد فاعلةً بالمطلق، ولا يوجد مشروع عربي إقليمي يمكنه أن يبني إطارا من الثقة حول قيادته، والعاملان يعودان إلى عام 1990 وغزو العراق للكويت والعطب العميق الذي ضرب التصورات العربية المتبادلة، والأمر ليس أفضل حالا عند الانتقال للشعوب العربية التي يكفي التجول في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاهدة جميع أمراض المجتمعات العربية بصورة فاضحة، وإشاعة اليأس تجاه قدرتها على بناء أي تحرك حقيقي أو مؤثر. تدرك نعمت شفيق أن المسألة ليست فلسطين، وأن اتهاماتها للطلبة بمعاداة السامية شكلية تماما، فالسؤال الحقيقي يدور حول الهيمنة والاستقلال بالمعنى الأوسع، ووجود أفكار جديدة تنتظر من يمكن أن يعمل على مأسستها، وفقط، كانت السيدة مينوش، التي يظهر التناقض في شخصيتها مع تغيير اسمها ليتماشى مع وضعها البريطاني ـ الأمريكي الجديد، هي الأكثر فزعا وخوفا وتسرعا، فهي ليست الاستعمارية المعتقة التي تدرك أن هذه الأمور تحدث من وقت إلى آخر، وأن شيئا لن يتغير، إلا في حالة حدوث التغيير على الجانب الآخر، وهو ما لا يظهر في الأفق مع الفوضى القائمة على مستوى الرؤية الاستراتيجية في المنطقة، التي جعلت الحدث الواضح (العدوان الإسرائيلي على غزة) جزءا من سياق أوسع (التنافس الإسرائيلي ـ الإيراني ـ التركي على المنطقة)، وكأن المنطقة تحولت إلى مشاع مفتوح ومجرد أرض لتصفية الحسابات لمصلحة الآخرين. يقوم الطلبة الأمريكيون بالتحرك في الفراغ الذي يمثله التهيب الرسمي والاضطراب الشعبي في المنطقة العربية، وفي مرحلة من فقدان الثقة بالذات والتاريخ والضرورة، ولكن تحركهم ليس موجها في جوهره للعمل نيابةً عن الآخرين، ومهما كان يستحق التقدير والاحترام والعرفان، فهو لا يمكن أن يمثل مصدرا للتعويل على تغيير كبير ومؤثر، والمشكلة الأعمق هي في استمرار إنتاج ظاهرة مينوش شفيق على جميع المستويات في المنطقة العربية بكل ما تحمله من ثقافة عائمة وانتهازية واستسلام للوضع الراهن الذي أسهم في تشكلها وصياغة دورها ووظيفتها.
كاتب أردني