اخبار البلد_ هل يمكن العثورعلى سياسي أردني واحد لديه الجرأة أو المزاج أو قدرة التحكّم بلسانه بحيث يكتفي بالحديث «بعيداً عن السياسة»وفي هذا الوقت بالذات؟ نقصد في فصل «الربيع العربي « الذي أصبح فيه كل شيء سياسة، وسياسة تعوم في فائض الشك ونكهات الريبة ومحفزات رفع الصوت.
في السنوات الماضية وحتى فترة غير بعيدة ،كان الحديث «بعيداً عن السياسة «مغرياً وممتعاً للسياسيين المحترفين. فما يعرفونه ويجهله الشارع، هو أكثر بكثير مما يودّون الخوض فيه. الآن تغير الوضع واختلطت بعض الاشارات الحمراء بالصفراء بالخضراء.. حديث السياسي «بعيداً فعلاً عن السياسة» بات وكأنه تهمة بالغياب عن الصورة أو انعدام الموقف أو شبهة بجفاف الذاكرة .
ذوات سبق وتحدثوا «بعيداً عن السياسة « وكانوا ممتعين في سردهم الهادئ، اختلفت نبرة الكثيرين منهم هذه المرّة. حديثهم أضحى أكثر إثارة بالمواقف وأثرى بالتفاصيل التي وإن كان عمرها أكثر من خمسين سنة إلا أنها تأتي موصولة بالذي نراه الآن ويفاجئنا .
الحكي «هذه المرة « له ميزة أخرى. فهو يكشف أن العديد من رجالات الدولة الذين لم نكن نرى منهم سوى صفحة التجهم واليباس، هم بعد التقاعد أصحاب بديهة رائقة وتسعفهم النكتة عندما تحرجهم الأسئلة.
الذين حاولوا توصيف الحياة السياسية الأردنية، تفاوتت تقديراتهم بشدة على أمور كثيرة، لكنها اتفقت على نقطتين: الأولى أن هذه الحياة السياسة محرقةٌ لرجالاتها، وبالذات في السنوات العشرين الماضية. فلم يغادر رئيس وزراء إلا وكان التصوّر أنه لن يعود بعدها لكثرة ما كانت تلحقه في أيامه الأخيرة من حملات تغبير. والصفة الثانية للحياة السياسية الأردنية أنها بدون ذاكرة مدوّنة!. لا تفسير واضحاً لهذه الظاهرة سوى احتمال أن يكون رؤساء الحكومات السابقون لا يريدون تدوين مذكراتهم لكثرة ما التبس فيها من أمور يصعب تدوينها بموضوعية.
طاهر المصري، رئيس مجلس الأعيان والرئيس الأسبق للوزراء، لا نريد أن نقول أنه الوحيد الذي « نجا « من هاتين الصفتين. فالرجل لشدة تواضعه وعزوفه الفطري الصادق عن سماع التقريظ الفاقع، لن يرضيه أن يقال عنه أنه من رجال الدولة ذوي السوّية الفريدة الذين لم تحرقهم السلطة ولم يندرجوا في الاصطفافات الخلافية ولم تتلوث أيديهم بالموبقات السياسية أو المالية. ولأنه كذلك فان التحرش بذاكرته السياسية للسنوات العشرين الماضية مسألة صحفية ممتعة.
في المملكة المغربية يطلقون على رجالات الدولة المرصودين للمهمات الكبيرة، تعبير رجال «الخزّان»، باعتبارهم يُفترضُ أن يكونوا ثقاةً عدولاً أقوياء وذوي أفق مبدع لتولي القضايا المفصلية أو الصعبة. أبو نشأت (ونشأت أيضاً اسم والده) له في «الخزان الأردني الهاشمي» موروثٌ عائلي سابقٌ لوحدة الضفتين عام 1951. وقد عزّزه الرجل بالممارسة الشخصية الشاقّة. في عام 1991 آثر أن تستقيل حكومته على أن يُحلّ مجلس النواب، فسُجلت له ضمن سِفر الحياة الديمقراطية. كان له حضوره في لجنة الميثاق الوطني، ومن فوقها بنى جهوداً أثيرة في رئاسة اللجنة الوطنية الأخيرة للحوار السياسي. وحين يُسال الرجل عن تجربته مع الإخوان المسلمين في حكومة ال 91 وفي لجنة الحوار فانه يستذكر تفاصيل تستحق التسجيل في قاموس الحياة المدنية والحراك الديمقراطي، حيث الاختلاف السياسي لا يؤثر على الإحترام الشخصي المتبادل.
حتى لا نثقل على تواضع الرجل بأوصاف وألقاب إيجابية يعرفها الجميع، فإننا نقتطف بعضاً مما أوردته موسوعة ويكيبيديا عن الرجل. فهي تنقل كلمة المغفور له بإذن الله الملك الحسين عندما قال له: «ما تعاملتُ مع إنسان أشرف منك يا طاهر». وفي سياقٍ آخر يوصف أبو نشأت بأنه «ضمير الحياة السياسية الأردنية» كونه يؤمن بمدنية الدولة إيماناً أهلّه لأن يتولى على المستوى القومي مسؤولية قطاع المجتمع المدني في الجامعة العربية أيام تعاظم الإحساس بضرورة الإسراع في الإصلاح. فقد نشأ الرجل على الإيمان القومي حد التصوف. وهو يعتبر وحدة الضفتين تحدياً قومياً وطنياً لاتفاقية سايكس بيكو. وفي تجسيده لمفهوم وسلوكيات الوحدة الوطنية كان الأبعد عن جدل المحاصصة والحقوق المنقوصة. وحين يتحدث في هذه الحلقات عن قرار فك الإرتباط فان لديه ما يقوله من تفاصيل قد لا يعرفها الكثيرون.
أبو نشأت الذي أنهى دراسته في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ حياته الوظيفية في البنك المركزي أيام تأسيسه (براتب 45 ديناراً شهرياً). مروحة المهمات التي تولاها بعد ذلك توسعت ،من النيابة إلى الوزارة إلى رئاسة الحكومة إلى رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الأعيان. هذا عدا التمثيل الدبلوماسي للاردن والمهمات القومية المدنية. وفيها كلها ظل متمسكاً بمنظومة المبادئ الشخصية التي يقول في مدونته الشخصية على الانترنت أنها ألقت بظلالها على مسيرته السياسية والاجتماعية. ولعلها هي ذاتها الانطباع الشائع عنه بأنه «رجل لا يضيع بوصلته».
هو من سوّية رجالات الدولة المستقبليين الذين يمتلكون رؤية استشرافية واضحة متماسكة. ولأن الحركة الإسلامية وبالتحديد «الإخوان المسلمين» وصلوا للسلطة في عديد البلدان العربية ويتهيأون الآن للمشاركة في الانتخابات القادمة التي يمتلكون لها تنظيماً حزبياً هو الأقوى محلياً بين التشكيلات المماثلة ويتطلعون لحكومات حزبية لتداول السلطة، لذلك فإن العلاقة بينهم وبين مختلف مؤسسات الدولة تظل نقطة تنبّه محورية في استشراف قادم الحراك السياسي في البلد.
من هذه النقطة بالذات، نبدأ مع رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري، لنستذكر حيثيات موقفين مفصليين له مع الحركة الإسلامية، الأول في استقالته من رئاسة الحكومة مطالع التسعينيات تحت ضغطهم، والثاني في رفض الإخوان المشاركة بلجنة الحوار السياسي التي ترأسها قبل بضعة أشهر. لم تكن هناك في الحالتين مواقف شخصية متبادلة، بقدرما هي الرؤى والمناهج المتقاطعة. أين هو مفتاح فهم تكرارهذا التقاطع بينكم وبينهم؟ وهل ترون في ثنايا الانتشار السلطوي الراهن للتيار الديني احتمالات أن يفشل في تلبية توقعات الناس ويتراجع كما تراجعت من قبله التيارات الاشتراكية والقومية ؟
لن أحكم على التيار الإسلامي بالنجاح أو الفشل.أنا أتعامل مع هذا الأمر من منطلقات سياسية. أولاً الحركة الإسلامية حركة أردنية إسلامية وهي جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي الأردني، وأعتقد أنهم ما زالوا ضمن نطاق الاعتدال السياسي المفترض. ثانياً الحركة الإسلامية تعمل تحت مظلة القانون والدستور والقوانين النافذة، ويجب أن تبقى كذلك.. وكخط سياسي أسعى إلى الحفاظ على الصفة المدنية للدولة، وإذا اختلفنا في هذا الأمر فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا اتفقنا فهو خير وبركة، أما الحكم عليهم منذ الآن بالنجاح أو الفشل بدون معايشة تجربتهم أومقارنتهم بالأحزاب الاشتراكية فهي لا شك مقارنة غير عادلة.
ولسؤالك عن تجربتي مع «الإخوان» في الحكومة فانني أستذكر مكررا و- كتاب التكليف الملكي لوزارتي بين أيديكم - أن حكومتي1991 كان هدفها الأول إصلاحي بامتياز. جئنا على هذا الأساس، والوزراء الذين شاركوا في الحكومة كانت مفاهيمهم إصلاحية وانفتاحية، وخصوصاً رئيس الحكومة الذي هو أنا. لكن الظرف الذي جاءت به حكومتي كان صعباً، احتلال الكويت وضرب العراق. الأردن كان معزولاً عن محيطه العربي نتيجة موقفه من احتلال الكويت أو من الرئيس الراحل صدام حسين، ومطالبته بالحل العربي. كان الإتحاد السوفيتي ينهار. الأردنيون الذين كانوا يعملون في الكويت والخليج أغلبهم ان لم يكن جميعهم قد خرجوا. كان هناك مجلس نواب قوي ثلثه من إسلاميين وحلفائهم. وعندما جاءت الحكومة كان قد بدأ التحرك الأميركي لحل القضية الفلسطينية أو التعامل معها. الإسلاميون اخذوا انطباعاً بأن تلك الحكومة أتت لتتعاون مع الأمريكان لضرب الإسلاميين ولإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وهي أمور كانت من المحرمات في السياسة الأردنية، ولذلك عارضوني على هذا الأساس وليس على أساس شخصي، وحصل ما حصل. الكل يعلم عن العريضة التي قدمت وتقديم استقالتي. وأنا أزعم أن الإسلاميين تبين لهم حقيقة الأمور، فيما بعد، وعادت العلاقة إلى مجراها الطبيعي والتفاهم فيما بيننا كسياسيين.
موضوع الحوار الوطني، مرة أخرى ليس موضوعاً شخصياً بيني وبينهم. بالعكس كانت العلاقة والثقة متبادلة لكن موقفهم سياسي.. كانوا يطالبون بأن تكون مهام اللجنة بشكل أوسع مما هو مخصص لها بكتاب التكليف. كانوا يريدون إجراء تعديلات دستورية، وقبلت بعد مفاوضات معهم. وضعناها على جدول الأعمال لكن مرة أخرى لاعتباراتهم الخاصة لم يشاركوا، وبقي لهم ممثلون غير رسميين وغير مباشرين مثل الأستاذ عبدالهادي الفلاحات نقيب المهندسين الزراعيين والذي كان مندوب النقابات، ومعه شاب إسلامي يمثل اتحادات الطلبة الأردنيين. بقيت على اتصال معهما. وكما قلت كان موقفهم سياسياً وليس شخصياً بلجنة الحوار.
إلى أي حد يقلق أبو نشأت أن يرى المد الديني وهو يسيطر على المشهد الإقليمي وكأن الربيع العربي تحول إلى ربيع ديني؟ هل من تفاصيل عن هذه القضية الراهنة شديدة الأهمية والحساسية؟
أنا أطالب وأدعو وأتمنى أن تبقى مدنية الدولة هي الطابع الرئيسي الذي يصبغ الدولة، وهذا ليس ضد الدين ولا ضد العقيدة. نحن نتحدث في إدارة الدولة التي يجب ان تكون مدنية. لكن طالما أن جبهة العمل الإسلامي تشارك في العمل السياسي تحت مظة الدستور، وهو دستور مدني، وضمن القوانين والقواعد العامة فلا اعتراض لي على ذلك الأمر.
في غياب التوازن بين الأحزاب في الحياة السياسية الأردنية، هل يرى أبو نشأت في مؤسسة «العشيرة» نداً سياسياً محتملاً للإخوان المسلمين؟
العشيرة هي مؤسسة أو وحدة اجتماعية. كلنا أبناء عشائر، ومجتمعنا من ناحية صلة الدم والقرابة صفته الرئيسية عشائرية، ولا اعتراض على ذلك. باعتقادي أنه لا يجوز تسييس العشيرة التي يجب أن تبقى وحدة اجتماعية وليس سياسية، وإلا سيتراجع مفهوم الدولة الذي تحدثنا عنه لصالح هويات فرعية، عصبيات ذات نظرة ضيقة. نحن نبني دولة، ومفهوم الدولة يجب أن يكون واضحاً وعريضاً.. نبني مؤسسية. ان عنوان الدولة العصرية التي ننادي بها هو مفهوم الدولة ومفهوم المؤسسية، لذلك أعتقد أنه لا تناقض بين مفهوم الصفة السياسية للدولة والصفة الاجتماعية للعشيرة.
وهل أنتم ممن يفسرون ما جرى في المفرق وقبلها وبعدها نوعا من الاختبارات التجريبية لنظرية العشيرة مقابل الإخوان؟
لا يجب أن ننغمس بهذه الأمور. ينبغي أن يكون العمل سياسياً، والتصرف سياسياً والموقف سياسياً. لا نريد احتكاكات. الموضوع انتهى ونأمل أن لا يعود.
لكن ما يبدو ان في المكوّنات الأردنية من هو مع هذا الطرح الذي حصل في المفرق و في المقابل من يحذر بشدة من انعكاسات هذه اللعبة السياسية الجديدة؟
إذا سرنا على أسلوب تسييس العشيرة فسنصل إلى هذه المرحلة. ولذلك أنا أدعو إلى الحفاظ عليها وحدة اجتماعية كما نحن . نطالب بعدم تسييس الدين كما نطالب بعدم تسييس العشيرة. ومرة أخرى أنا أتكلم عن مفهوم اجتماعي فقط وليس سياسي.
في الحلقة القادمة: طاهر المصري و»اجتماع الديوان لرؤساء الحكومات السابقين»
استراحة
كم هي درجة القلق التي تشعر بها حيال أحفادك، والحياة التي تتخيل أنهم سيعيشونها بعد 10 أو 20 سنة، خصوصاً وأن الكثير الكثير من الخطوط الحمراء التي عشناها وتربينا عليها قد تكسرت ؟
أشعر حقيقة بالقلق على أحفادي تماما كما يشعر العديد من الأردنيين بالقلق على أحفادهم. فالزمن يتغير بسرعة، ومفهوم الدولة التي عشنا في ظلها ستين سنة ببناء مؤسسي قانوني دستوري يتمتع بالأمن والأمان بدأ يتراجع لصالح عصبيات ونظرات ضيقة ولصالح هويات ثانوية ومصالح ضيقة. أنا أؤمن بأهمية أن نستمر في الخط الأردني الثابت وهو بناء الدولة، مفهوم الدولة وانتماؤنا لها وليس لفئات أو جهات ضيقة. جيلي يتذكر كيف تم بناء الدولة منذ عهد الإمارة، وكيف بدأنا بالتدرج حتى أصبحنا بهذا الوضع المميز والمتميز في المنطقة، ولذلك لا أريد أن أكون متشائماً، لكن حكماً على ما نراه الآن أعتقد أننا نسير في طريق أتمنى أن لا يستمر، وأن نعود لأخذ زمام المبادرة في بناء الدولة بمفهومها.
نصحت نجلك نشأت بالابتعاد عن السياسة؟
نشأت اختار مستقبله برغبته وارادته. هو وإن كان مسيّساً ولديه وعي اجتماعي سياسي اقتصادي عالٍ إلا انه يجد نفسه في عمله كرجل أعمال و»بعيداً عن السياسة».
في السنوات الماضية وحتى فترة غير بعيدة ،كان الحديث «بعيداً عن السياسة «مغرياً وممتعاً للسياسيين المحترفين. فما يعرفونه ويجهله الشارع، هو أكثر بكثير مما يودّون الخوض فيه. الآن تغير الوضع واختلطت بعض الاشارات الحمراء بالصفراء بالخضراء.. حديث السياسي «بعيداً فعلاً عن السياسة» بات وكأنه تهمة بالغياب عن الصورة أو انعدام الموقف أو شبهة بجفاف الذاكرة .
ذوات سبق وتحدثوا «بعيداً عن السياسة « وكانوا ممتعين في سردهم الهادئ، اختلفت نبرة الكثيرين منهم هذه المرّة. حديثهم أضحى أكثر إثارة بالمواقف وأثرى بالتفاصيل التي وإن كان عمرها أكثر من خمسين سنة إلا أنها تأتي موصولة بالذي نراه الآن ويفاجئنا .
الحكي «هذه المرة « له ميزة أخرى. فهو يكشف أن العديد من رجالات الدولة الذين لم نكن نرى منهم سوى صفحة التجهم واليباس، هم بعد التقاعد أصحاب بديهة رائقة وتسعفهم النكتة عندما تحرجهم الأسئلة.
الذين حاولوا توصيف الحياة السياسية الأردنية، تفاوتت تقديراتهم بشدة على أمور كثيرة، لكنها اتفقت على نقطتين: الأولى أن هذه الحياة السياسة محرقةٌ لرجالاتها، وبالذات في السنوات العشرين الماضية. فلم يغادر رئيس وزراء إلا وكان التصوّر أنه لن يعود بعدها لكثرة ما كانت تلحقه في أيامه الأخيرة من حملات تغبير. والصفة الثانية للحياة السياسية الأردنية أنها بدون ذاكرة مدوّنة!. لا تفسير واضحاً لهذه الظاهرة سوى احتمال أن يكون رؤساء الحكومات السابقون لا يريدون تدوين مذكراتهم لكثرة ما التبس فيها من أمور يصعب تدوينها بموضوعية.
طاهر المصري، رئيس مجلس الأعيان والرئيس الأسبق للوزراء، لا نريد أن نقول أنه الوحيد الذي « نجا « من هاتين الصفتين. فالرجل لشدة تواضعه وعزوفه الفطري الصادق عن سماع التقريظ الفاقع، لن يرضيه أن يقال عنه أنه من رجال الدولة ذوي السوّية الفريدة الذين لم تحرقهم السلطة ولم يندرجوا في الاصطفافات الخلافية ولم تتلوث أيديهم بالموبقات السياسية أو المالية. ولأنه كذلك فان التحرش بذاكرته السياسية للسنوات العشرين الماضية مسألة صحفية ممتعة.
في المملكة المغربية يطلقون على رجالات الدولة المرصودين للمهمات الكبيرة، تعبير رجال «الخزّان»، باعتبارهم يُفترضُ أن يكونوا ثقاةً عدولاً أقوياء وذوي أفق مبدع لتولي القضايا المفصلية أو الصعبة. أبو نشأت (ونشأت أيضاً اسم والده) له في «الخزان الأردني الهاشمي» موروثٌ عائلي سابقٌ لوحدة الضفتين عام 1951. وقد عزّزه الرجل بالممارسة الشخصية الشاقّة. في عام 1991 آثر أن تستقيل حكومته على أن يُحلّ مجلس النواب، فسُجلت له ضمن سِفر الحياة الديمقراطية. كان له حضوره في لجنة الميثاق الوطني، ومن فوقها بنى جهوداً أثيرة في رئاسة اللجنة الوطنية الأخيرة للحوار السياسي. وحين يُسال الرجل عن تجربته مع الإخوان المسلمين في حكومة ال 91 وفي لجنة الحوار فانه يستذكر تفاصيل تستحق التسجيل في قاموس الحياة المدنية والحراك الديمقراطي، حيث الاختلاف السياسي لا يؤثر على الإحترام الشخصي المتبادل.
حتى لا نثقل على تواضع الرجل بأوصاف وألقاب إيجابية يعرفها الجميع، فإننا نقتطف بعضاً مما أوردته موسوعة ويكيبيديا عن الرجل. فهي تنقل كلمة المغفور له بإذن الله الملك الحسين عندما قال له: «ما تعاملتُ مع إنسان أشرف منك يا طاهر». وفي سياقٍ آخر يوصف أبو نشأت بأنه «ضمير الحياة السياسية الأردنية» كونه يؤمن بمدنية الدولة إيماناً أهلّه لأن يتولى على المستوى القومي مسؤولية قطاع المجتمع المدني في الجامعة العربية أيام تعاظم الإحساس بضرورة الإسراع في الإصلاح. فقد نشأ الرجل على الإيمان القومي حد التصوف. وهو يعتبر وحدة الضفتين تحدياً قومياً وطنياً لاتفاقية سايكس بيكو. وفي تجسيده لمفهوم وسلوكيات الوحدة الوطنية كان الأبعد عن جدل المحاصصة والحقوق المنقوصة. وحين يتحدث في هذه الحلقات عن قرار فك الإرتباط فان لديه ما يقوله من تفاصيل قد لا يعرفها الكثيرون.
أبو نشأت الذي أنهى دراسته في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ حياته الوظيفية في البنك المركزي أيام تأسيسه (براتب 45 ديناراً شهرياً). مروحة المهمات التي تولاها بعد ذلك توسعت ،من النيابة إلى الوزارة إلى رئاسة الحكومة إلى رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الأعيان. هذا عدا التمثيل الدبلوماسي للاردن والمهمات القومية المدنية. وفيها كلها ظل متمسكاً بمنظومة المبادئ الشخصية التي يقول في مدونته الشخصية على الانترنت أنها ألقت بظلالها على مسيرته السياسية والاجتماعية. ولعلها هي ذاتها الانطباع الشائع عنه بأنه «رجل لا يضيع بوصلته».
هو من سوّية رجالات الدولة المستقبليين الذين يمتلكون رؤية استشرافية واضحة متماسكة. ولأن الحركة الإسلامية وبالتحديد «الإخوان المسلمين» وصلوا للسلطة في عديد البلدان العربية ويتهيأون الآن للمشاركة في الانتخابات القادمة التي يمتلكون لها تنظيماً حزبياً هو الأقوى محلياً بين التشكيلات المماثلة ويتطلعون لحكومات حزبية لتداول السلطة، لذلك فإن العلاقة بينهم وبين مختلف مؤسسات الدولة تظل نقطة تنبّه محورية في استشراف قادم الحراك السياسي في البلد.
من هذه النقطة بالذات، نبدأ مع رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري، لنستذكر حيثيات موقفين مفصليين له مع الحركة الإسلامية، الأول في استقالته من رئاسة الحكومة مطالع التسعينيات تحت ضغطهم، والثاني في رفض الإخوان المشاركة بلجنة الحوار السياسي التي ترأسها قبل بضعة أشهر. لم تكن هناك في الحالتين مواقف شخصية متبادلة، بقدرما هي الرؤى والمناهج المتقاطعة. أين هو مفتاح فهم تكرارهذا التقاطع بينكم وبينهم؟ وهل ترون في ثنايا الانتشار السلطوي الراهن للتيار الديني احتمالات أن يفشل في تلبية توقعات الناس ويتراجع كما تراجعت من قبله التيارات الاشتراكية والقومية ؟
لن أحكم على التيار الإسلامي بالنجاح أو الفشل.أنا أتعامل مع هذا الأمر من منطلقات سياسية. أولاً الحركة الإسلامية حركة أردنية إسلامية وهي جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي الأردني، وأعتقد أنهم ما زالوا ضمن نطاق الاعتدال السياسي المفترض. ثانياً الحركة الإسلامية تعمل تحت مظلة القانون والدستور والقوانين النافذة، ويجب أن تبقى كذلك.. وكخط سياسي أسعى إلى الحفاظ على الصفة المدنية للدولة، وإذا اختلفنا في هذا الأمر فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا اتفقنا فهو خير وبركة، أما الحكم عليهم منذ الآن بالنجاح أو الفشل بدون معايشة تجربتهم أومقارنتهم بالأحزاب الاشتراكية فهي لا شك مقارنة غير عادلة.
ولسؤالك عن تجربتي مع «الإخوان» في الحكومة فانني أستذكر مكررا و- كتاب التكليف الملكي لوزارتي بين أيديكم - أن حكومتي1991 كان هدفها الأول إصلاحي بامتياز. جئنا على هذا الأساس، والوزراء الذين شاركوا في الحكومة كانت مفاهيمهم إصلاحية وانفتاحية، وخصوصاً رئيس الحكومة الذي هو أنا. لكن الظرف الذي جاءت به حكومتي كان صعباً، احتلال الكويت وضرب العراق. الأردن كان معزولاً عن محيطه العربي نتيجة موقفه من احتلال الكويت أو من الرئيس الراحل صدام حسين، ومطالبته بالحل العربي. كان الإتحاد السوفيتي ينهار. الأردنيون الذين كانوا يعملون في الكويت والخليج أغلبهم ان لم يكن جميعهم قد خرجوا. كان هناك مجلس نواب قوي ثلثه من إسلاميين وحلفائهم. وعندما جاءت الحكومة كان قد بدأ التحرك الأميركي لحل القضية الفلسطينية أو التعامل معها. الإسلاميون اخذوا انطباعاً بأن تلك الحكومة أتت لتتعاون مع الأمريكان لضرب الإسلاميين ولإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وهي أمور كانت من المحرمات في السياسة الأردنية، ولذلك عارضوني على هذا الأساس وليس على أساس شخصي، وحصل ما حصل. الكل يعلم عن العريضة التي قدمت وتقديم استقالتي. وأنا أزعم أن الإسلاميين تبين لهم حقيقة الأمور، فيما بعد، وعادت العلاقة إلى مجراها الطبيعي والتفاهم فيما بيننا كسياسيين.
موضوع الحوار الوطني، مرة أخرى ليس موضوعاً شخصياً بيني وبينهم. بالعكس كانت العلاقة والثقة متبادلة لكن موقفهم سياسي.. كانوا يطالبون بأن تكون مهام اللجنة بشكل أوسع مما هو مخصص لها بكتاب التكليف. كانوا يريدون إجراء تعديلات دستورية، وقبلت بعد مفاوضات معهم. وضعناها على جدول الأعمال لكن مرة أخرى لاعتباراتهم الخاصة لم يشاركوا، وبقي لهم ممثلون غير رسميين وغير مباشرين مثل الأستاذ عبدالهادي الفلاحات نقيب المهندسين الزراعيين والذي كان مندوب النقابات، ومعه شاب إسلامي يمثل اتحادات الطلبة الأردنيين. بقيت على اتصال معهما. وكما قلت كان موقفهم سياسياً وليس شخصياً بلجنة الحوار.
إلى أي حد يقلق أبو نشأت أن يرى المد الديني وهو يسيطر على المشهد الإقليمي وكأن الربيع العربي تحول إلى ربيع ديني؟ هل من تفاصيل عن هذه القضية الراهنة شديدة الأهمية والحساسية؟
أنا أطالب وأدعو وأتمنى أن تبقى مدنية الدولة هي الطابع الرئيسي الذي يصبغ الدولة، وهذا ليس ضد الدين ولا ضد العقيدة. نحن نتحدث في إدارة الدولة التي يجب ان تكون مدنية. لكن طالما أن جبهة العمل الإسلامي تشارك في العمل السياسي تحت مظة الدستور، وهو دستور مدني، وضمن القوانين والقواعد العامة فلا اعتراض لي على ذلك الأمر.
في غياب التوازن بين الأحزاب في الحياة السياسية الأردنية، هل يرى أبو نشأت في مؤسسة «العشيرة» نداً سياسياً محتملاً للإخوان المسلمين؟
العشيرة هي مؤسسة أو وحدة اجتماعية. كلنا أبناء عشائر، ومجتمعنا من ناحية صلة الدم والقرابة صفته الرئيسية عشائرية، ولا اعتراض على ذلك. باعتقادي أنه لا يجوز تسييس العشيرة التي يجب أن تبقى وحدة اجتماعية وليس سياسية، وإلا سيتراجع مفهوم الدولة الذي تحدثنا عنه لصالح هويات فرعية، عصبيات ذات نظرة ضيقة. نحن نبني دولة، ومفهوم الدولة يجب أن يكون واضحاً وعريضاً.. نبني مؤسسية. ان عنوان الدولة العصرية التي ننادي بها هو مفهوم الدولة ومفهوم المؤسسية، لذلك أعتقد أنه لا تناقض بين مفهوم الصفة السياسية للدولة والصفة الاجتماعية للعشيرة.
وهل أنتم ممن يفسرون ما جرى في المفرق وقبلها وبعدها نوعا من الاختبارات التجريبية لنظرية العشيرة مقابل الإخوان؟
لا يجب أن ننغمس بهذه الأمور. ينبغي أن يكون العمل سياسياً، والتصرف سياسياً والموقف سياسياً. لا نريد احتكاكات. الموضوع انتهى ونأمل أن لا يعود.
لكن ما يبدو ان في المكوّنات الأردنية من هو مع هذا الطرح الذي حصل في المفرق و في المقابل من يحذر بشدة من انعكاسات هذه اللعبة السياسية الجديدة؟
إذا سرنا على أسلوب تسييس العشيرة فسنصل إلى هذه المرحلة. ولذلك أنا أدعو إلى الحفاظ عليها وحدة اجتماعية كما نحن . نطالب بعدم تسييس الدين كما نطالب بعدم تسييس العشيرة. ومرة أخرى أنا أتكلم عن مفهوم اجتماعي فقط وليس سياسي.
في الحلقة القادمة: طاهر المصري و»اجتماع الديوان لرؤساء الحكومات السابقين»
استراحة
كم هي درجة القلق التي تشعر بها حيال أحفادك، والحياة التي تتخيل أنهم سيعيشونها بعد 10 أو 20 سنة، خصوصاً وأن الكثير الكثير من الخطوط الحمراء التي عشناها وتربينا عليها قد تكسرت ؟
أشعر حقيقة بالقلق على أحفادي تماما كما يشعر العديد من الأردنيين بالقلق على أحفادهم. فالزمن يتغير بسرعة، ومفهوم الدولة التي عشنا في ظلها ستين سنة ببناء مؤسسي قانوني دستوري يتمتع بالأمن والأمان بدأ يتراجع لصالح عصبيات ونظرات ضيقة ولصالح هويات ثانوية ومصالح ضيقة. أنا أؤمن بأهمية أن نستمر في الخط الأردني الثابت وهو بناء الدولة، مفهوم الدولة وانتماؤنا لها وليس لفئات أو جهات ضيقة. جيلي يتذكر كيف تم بناء الدولة منذ عهد الإمارة، وكيف بدأنا بالتدرج حتى أصبحنا بهذا الوضع المميز والمتميز في المنطقة، ولذلك لا أريد أن أكون متشائماً، لكن حكماً على ما نراه الآن أعتقد أننا نسير في طريق أتمنى أن لا يستمر، وأن نعود لأخذ زمام المبادرة في بناء الدولة بمفهومها.
نصحت نجلك نشأت بالابتعاد عن السياسة؟
نشأت اختار مستقبله برغبته وارادته. هو وإن كان مسيّساً ولديه وعي اجتماعي سياسي اقتصادي عالٍ إلا انه يجد نفسه في عمله كرجل أعمال و»بعيداً عن السياسة».
ملك يوسف التل