كما هو معروف، أنشئت منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مستفيدة في صياغة ميثاقها من دروس تلك الحرب التي كشفت بين ما كشفت أخطاء وعيوب عصبة الأمم إذ كانت مطيّة للدول القوية، أما الولايات المتحدة الأميركية الدولة الكبرى التي خرجت من الحرب سليمةً معافاة بفضل بعدها عن ساحات القتال إلا في سنواتها الأخيرة حين رجّحت كفةَ حلفائها الاوروبيين الذين أصيبت بلادهم بدمار واسع، فإنها واصلت محاولاتها لأن تقود العالم منفردةً كقطب أوحد من خلال الهيمنة على المنظمة الدولية الجديدة لتسييرها حسب رغباتها او بالأحرى اطماعها لولا وجود قوىً اخرى آنذاك تخفف من غلوائها كالاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وكانت إحدى وسائلها الناعمة لبلوغ هدفها انها استضافتها في السنوات الأولى من عمرها في إحدى مدنها الكبرى (سان فرانسيسكو) إلى أن تم بناء موقعها الدائم في أكبر مدنها (نيويورك)، وحتى ميثاقها العظيم الذي تم وضعه من قبل لجان مثّلت جميع الدول المؤسسة واحتوى على كل ما يمكن ان يخطر ببال من مبادئ وقوانين وعهود تشمل العلاقات بين الدول بهدف المحافظة على السلم العالمي وإفساح المجال لتقدم البشرية جمعاء فإن الولايات المتحدة دسّت في ثنايا هذا الميثاق بخبث ودهاء مواد بريئة المظهر كحق النقض (الڤيتو) تمكنها في المستقبل من استخدامها لحسابها وحساب الدول الحليفة حتى لا نقول التابعة لها سياسيا واقتصاديا، وضد مصالح وحقوق الشعوب المستضعفة ولو تظاهرت بغير ذلك، وما انفكت يوماً عن ارتكاب ذلك فكانت تنجح احيانا وتخفق اخرى،خصوصاً في البدايات وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي وتصبح هي القطب الأوحد لفترة غير قصيرة إلى أن استعاد العالم بعض توازنه ببدء ظهور اقطاب اخرى قد تقوى على المنافسة كمجموعة البريكس (الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب افريقيا)..
صحيح أن المنظمة الدولية في بعض الفترات دافعت عن هيبتها واستقلاليتها في مواجهة الغطرسة الأميركية بقوة واقتدار فصدرت عنها قرارات تاريخية ملزمة التنفيذ بواسطة مجلس الأمن، لكن في فترات اخرى هبطت سمعتها وتدنت ثقة الشعوب بها خصوصا الصغيرة منها وهي موئلها الوحيد، فالفلسطينيون مثلًا بعد ما اغتصب الصهاينة بلادهم وهجّروهم منها بتطهير عرقي سافرٍ عام النكبة (١٩٤٨)، قاموا بطرح قضيتهم عليها من خلال الحكومات العربية والاسلامية وبعض الدول الصديقة لكن هذه الجهود باءت بالفشل نتيجة دعم مطلق لإسرائيل من قبل الدول الغربية وعلى راسها أميركا حتى في تجاهلها لقرارات الامم المتحدة مرة تلوَ اخرى حتى يئس الكثير منهم وسلّموا الأمر للولايات المتحدة باعتبارها الجهة الوحيدة التي تمسك بخيوط الحلّ الموهوم وخير من يقوم بدور راعي العملية السياسية في المنطقة، وأخيرا، وهو بيت القصيد، لا داعي لإقحام الامم المتحدة في الأمر! وقد فعلت ذلك بالتعاون والتنسيق (واحيانا بالوعيد والتهديد) مع كثير من دول المنطقة، وبقيت القضية تراوح مكانها ويفقد الفلسطينيون حقوقهم واراضيهم تِباعًا، واضطرت قوى المقاومة في صفوفهم أن تحمل المسؤولية على عاتقها وتحاول بانتفاضات متكررة أن تحارب الاحتلال الغاشم، وكان آخرها طوفان الأقصى في غزة، حيث قامت إسرائيل، بحجة الدفاع عن نفسها وهي الدولة المحتلة، بشن حرب تدمير وإبادة على الفلسطينيين بقيادة مشتركة مع أميركا (!) وبمساعدتها غير المحدودة عسكريا وماليا وسياسيا، ما يعني ضمنا استخدامها حق النقض لعدم السماح للأمم المتحدة بالتوسط أو التدخل، وذلك بإفشال أي قرار يمكن أن يتخذه مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وهو ما حدث فعلا حين التأم قبل أسبوعين وكان لوزير خارجيتنا ايمن الصفدي فيه كلمة مميزة فندّ فيها ادعاء إسرائيل بأن عدوانها على غزة جاء دفاعا عن النفس بقوله: أن القانون الدولي ينص حاسمًا على ان لا حق لمحتل في الدفاع عن النفس...ومن يريد حماية شعبه لا يسرق حياة شعب آخر...ومن يريد أمن شعبه لا يستعمر ارض شعب آخر ويسجن اطفاله من دون محاكمة وبلا رحمة! وحدث مرة اخرى أمس وانا اكتب هذه السطور باستخدامها الفيتو في الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن بدعوة من الامين العام للأمم المتحدة بموجب المادة ٩٩، وتكون النتيجة المأساوية المخزية استمرار المجزرة كما يشهدها العالم بلا مواربة أو تمويه متمثلة في مصرع مايقرب من عشرين ألف فلسطيني اكثرهم من الأطفال والنساء!
وبعد.. فأن الحرب على غزة، حسب المفكرين الأميركيين المستقلين، هي حلقة من مسلسل حروب دولتهم على الآخرين منذ انشائها، وأوضحوا بالوقائع والتحليل العلمي أنها تتم هذه المرة بالتواطؤ الكامل مع إسرائيل كقاعدة متقدمة للإمبريالية الغربية الاستعمارية العنصرية البيضاء!..