بعد 56 عاما من احتلال شطرها الشرقي وتوحيدها تحت السيادة الإسرائيلية، ربما أكثر ما يخيف إسرائيل الأولى، إن صح التعبير، هو نموذج القدس الذي يحوم حوله "شبح" العرب الفلسطينيين ويهيمن عليه الحريديون والمتدينون اليهود؛ وما يخيفهم هو انسحاب وتعميم هذا النموذج على سائر المدن والمناطق في إسرائيل وما سيتركه من فقدان لطابعها الليبرالي الأشكنازي في ظل هاجس خسارة طابعها اليهودي أيضا.
في ما يسمى بالقدس الموحدة يشكل العرب الفلسطينيون 40% من عدد السكان، في حين يشكل الحريديون والمتدينون 70% من سكانها اليهود، حيث تشير معطيات دائرة الإحصاء المركزية إلى أن 270 ألف نسمة من سكان القدس اليهود هم من الحريديين و130 ألفا من المتدينين و79 ألفا من المحافظين وذلك مقابل 90 ألفا فقط من العلمانيين.
أي أن القدس تشكل نموذجا تعيش فيه المجموعة الأشكنازية الليبرالية كأقلية، بل كأقلية مضطهدة أيضا، تحرم من ممارسة الكثير من حقوقها المدنية بفعل هيمنة الحريديين والمتدينين على المدينة، وهي حالة عكسية لما هو سائد في عموم إسرائيل التي يشكل الحريديون والمتدينون أقلية فيها ويمارسون حياتهم كقطاعات تعيش في ما يشبه كانتونات خاصة بها.
المفارقة أنه في أعقاب حركة الاحتجاج وما كشفته عن تحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، أصبح الحديث يدور عن قطاعات علمانية أشكنازية تحظى بكانتونات خاصة بها، على غرار "دولة تل أبيب"، ما يشير إلى سيطرة الحريديين والمتدينين والشرقيين على الحيز العام وفرض قيمهم عليه.
في القدس يظهر ذلك جليا باحتلال أحياء كاملة كانت في السابق علمانية وتحويلها إلى أحياء حريدية أو متدينة، إلى جانب تحويل أحياء أخرى إلى أحياء مختلطة، يترافق ذلك مع إفراغ بنايات مدارس كانت تستعمل للتعليم الرسمي العلماني وتحويلها إلى التعليم الديني أو الحريدي، وذلك سبب الهجرة الواسعة التي تشهدها المدينة للأوساط الأشكنازية العلمانية.
وفي موضوع انقلاب المعادلة ضد الأشكناز الليبراليين مقابل الشرقيين يكشف عالم الاجتماع الإسرائيلي، غاي أبوطبول - زلينغر، عن أرقام مذهلة تظهر أن 53 عضو كنيست من أصل 111 عدد أعضاء الكنيست اليهود هم من اليهود الشرقيين، وأن 19 وزيرا من مجموع 32 وزيرا في الحكومة هم أيضا من الشرقيين، في حين يشكل الشرقيون أكثر من 60% من رؤساء السلطات المحلية، وهي أرقام تفوق نسبتهم من السكان التي تبلغ 35%.
ويشير أبوطبول - زلينغر، إلى أن الحديث عن إسرائيل الثانية المضطهدة هو حديث غير واقعي، لأن الشرقيين اليوم ليسوا ضحايا، بل هم مجموعة أساسية، وأنهم عن طريق تصويتهم لليكود أصبحوا يسيطرون على إسرائيل خلال العقود الأربعة الأخيرة، حتى بات من الممكن الحديث عن هيمنة شرقية، يحق للأشكناز في ظلها المطالبة بحقوق متساوية.
ورغم عدم إغفاله لبعض مواقع التمييز التي ما زال الشرقيون يعانون فيها مثل الأكاديميا والقضاء، إلى جانب تركز الشرقيين في الضواحي مقابل احتلال الأشكناز للمركز، يقول أبوطبول - زلينغر إن الشرقيين تمكنوا من خلق هوية شرقية قوية، وإغلاق الفجوة بينهم وبين الأشكناز خلال أربعة عقود من حكم الليكود الذي يصنفه كحزب شرقي من ناحية المصوتين والمنتخبين، وأنه أسقط الكثير من الحواجز التي منعتهم من ذلك في الماضي.
وهو يورد أن ثلثي الشرقيين ينتمون اليوم إلى الطبقة الوسطى التي تبددت فيها الفوارق بينهم وبين الأشكناز، إذ أصبحوا متساوين في عدد أفراد العائلة وجيل الزواج وأنماط الاستهلاك ووتيرة السفر إلى الخارج ومقدار التأكيد على أهمية التعليم، إلى جانب ردم الفجوة المتعلقة بمدى التدين بين الطرفين.
وإذا ما مددنا الخيط الواصل بين المتدينين والحريديين والشرقيين والذي يجعلهم في ذات الحكومة بزعامة الليكود، نرتبط مع الواقع الإسرائيلي الحالي الذي تحول في ظله الأشكناز الليبراليين إلى أقلية يصار إلى تجريدها من أواخر مواقعها المتمثلة بالقضاء والأكاديميا بواسطة ما يسمى بـ"الإصلاح القضائي" الذي سيثبت هيمنة الفئات الصاعدة آنفة الذكر.