هل توجد عبارة سياسية بسيطة ومباشرة مثل الهوية الوطنية الجامعة؟ على كل بساطتها ومباشرتها لقيت هذه العبارة كثيراً من اللغط عندما طرحت في الحوار السياسي والمجتمعي على مستوى الأردن، وتبدت في الحوار كل ملامح التشكيك والارتياب والتأويل المفرط الذي لا ينتج فهماً أو وعياً بقدر ما يخلف غموضاً وارتباكاً.
الهوية هي كلمة السر التي تثير حفيظة الكثيرين، وخاصة من تأثروا، وما أكثرهم، ببلدان شقيقة حملت على أكتافها إشكاليات الهوية بعمق ودفعت ثمناً باهظاً مثل العراق وسوريا، وبعضها الآخر وظف الهوية في الصراع السياسي مثل لبنان، ومصر لم تنجُ في تراكمات التاريخ من نبش ملفاتها الهوياتية، والمشكلة أن جيل المؤسسين للفكر الأردني في مختلف المجالات، تلقوا تعليمهم وتشربوا ثقافتهم بين بيروت والقاهرة ودمشق، وأخذوا يسقطون مفاهيمهم المشتقة من معايشتهم لتلك المجتمعات على الأردن.
يعود البعض في البحث عن هوية أردنية إلى اللحظة العثمانية، متناسين أنها لحظة قام مشروع الأردن الحديث ودول المشرق العربي على مناهضتها، كما أنها لم توفر أرضية شاملة للأردن الذي نعرفه اليوم، وكانت الأرض التي تأسست وتحددت بعد ذلك عرضة آنذاك لأهواء الإداريين العثمانيين ومصالحهم في تقسيمها إلى ولايات وسناجق، والعثمنة نقطة غير صالحة للتفسير، ولا الاستناد.
الهوية الأردنية هي سياسية قانونية بامتياز، فالأردن أرض ثرية بموقعها ومناخها جذبت السكان وصدرتهم طويلاً، وكثير من سكانها اليوم وعشائرها تستطيع أن تعود بأصولها إلى قبائل عاشت في الجزيرة العربية وبادية الشام، ومع ذلك، أصبحت أردنية بمعنى الاتساق مع مشروع سياسي وطني وقومي في آن واحد.
سياسة الإفقار والهندسة السكانية التي اتبعها العثمانيون أو فرضت عليهم، جعلت الأردن أرضاً برسم البناء، بمعنى تضافر جهود أهله مع مؤسسات دولة استطاعت أن تستوعب التوق الوطني للتحرر والبناء والتنمية.
الأردنيون المتضامنون أمام تحديات المعيشة وظروفها الصعبة، المتفاعلون مع قضايا المنطقة العربية وحركات الاستقلال، جميعهم من غير استثناء أسهموا في بناء الأردن، من وقف على حدوده في الصهد والبرد يذود عن أمنه وسلامته، ومن أفنى زهرة العمر مغترباً يصنع سمعة الأردن ويعود ليضع تحويشة العمر في منزل وفي تعليم يسهم في تراكم الاقتصاد بناء على الاستجابة لطلب الخدمات.
جميعهم من غير استثناء أسهموا في البناء، وشكلوا معاً تفاصيل الهوية، اجترحوها في وسط عواصف المنطقة وزلازلها، وضعوا حجراً فوق الآخر في بنائها، تركوا بصمات أياديهم عليها وتركت هذه الهوية آثارها التي لا تنسى داخلهم، بحيث أصبح استدعاء أي هوية تاريخية أو مفارقة لواقع بناء الدولة الأردنية وتفاعلاته، أمراً يتصف بالجحود والنكران، كما أن استلهام أي قضية لتسمو على قضية الكرامة والعيش بأمن والعدل والحرية في الأردن عمل لا يقل جحوداً أو نكراناً.
لا يعني ذلك أن نشطب الثقافات المتباينة، ولا أن نلغي الجانب التاريخي أو نستل أنفسنا من أي قضية أو تكليف قومي، ولكنه يعني أن ننطلق في ذلك من هويتنا الجامعة التي تعطينا تمايزنا الخاص وتمنحنا الاحترام بوصفنا شعباً له تجربة خاصة تقوم على تراكمه الذاتي.
لا يصح مطلقاً أن نمضي إلى تأويلات متشككة لأن التشكك دائرة ستتسع حتى تشمل الجميع، وليس علينا إلا نفكر في بناء عكف عليه الجميع، ولا يصح عملياً أو معنوياً أن يخضع لقسمة الغرماء.