يشهد الدولار في الوقت الحاضر تطورات لم تحصل منذ زمن طويل حيث ارتفع خلال الربع الثالث من عام 2022 بنسبة 7.2% أمام سلة من العملات الصعبة الرئيسية (اليورو، الباوند الاسترليني، الين)، وهو أعلى ارتفاع منذ بداية عام 2015 وهو مرشح لمواصلة الصعود حتى منتصف عام 2023 على اقل تقدير. اما السبب الرئيسي فهو الارتفاع المتواصل لسعر الفائدة بين البنوك المستهدف (الفدرال فند ريت) في الولايات المتحدة حيث بلغ مجموع هذه الارتفاعات 225 نقطة اساس منذ بداية هذا العام وتشير التوقعات باستمرار هذه الارتفاعات حيث من المتوقع ان تبلغ الزيادة ما مقداره 175 نقطة اساس على اقل تقدير ليصل الى 400 نقطة أو 4% خلال عام 2023. ومعروف ان السبب في ذلك هو مكافحة التضخم الذي وصل الى مستويات لم يشهدها منذ 40 عاما. هذه التطورات هي المسبب الرئيسي لارتفاع قيمة الدولار الذي أصلا كان مرتفع بسبب أن الوضع الاقتصادي ووضع سوق العمل يمران بمرحلة جيدة. بالاصافة الى ضعف اقتصادات الدول التي تصنف عملاتها بالصعبة مثل بريطانيا وأوروبا واليابان. ان ارتفاع الدولار بهذا القدر له آثار جانبية حادة وخاصة على الدول النامية التي سوف تعاني كثيرا والتي كانت أصلا تعاني بسبب أزمة كورونا وارتفاع مستويات الديون لديها، وسوف تواجه التحديات التالية:
أولا: ستشهد أسعار المستوردات قفزات غير مسبوقة لأن معظم هذه المستوردات تدفع بالدولار، فعلى سبيل المثال، بلغت قيمة 100 دولار من النفط قبل عام ما يقرب من 1600 جنيه مصري مقارنة ب 1950 جنيها اليوم. أي بزيادة مقدارها 22%. وكثير من هذه السلع تعتبر أساسية ولا يمكن تخفيضها.
ثانيا: سوف ترتفع ديون هذه الدول المحررة بالدولار الأميركي عند معادلتها بالعملات المحلية ولذلك سوف ترتفع مدفوعات الدين الخارجي (أقساط وفوائد)، فشراء دولار مرتفع لتسديد دين أصبح مكلفا جدا. أما إذا كان الدولار متوفرا ضمن الاحتياطيات الرسمية، فان استخدامه لتسديد الديون يعرضها لتكلفة الفرصة البديلة. صحيح أنها لا تشتري الدولار لكنها تتخلى عن دولار مرتفع القيمة.
ثالثا: سوف تتعمق مشاكل الركود الاقتصادي في معظم الدول النامية لارتفاع اسعار المستوردات وتزداد الضغوط التضخمية بنفس الوقت وهو ما سيدفع بعض هذه الدول لاعلان افلاسها. فعلى سبيل المثال اقترب معدل التضخم في سيرلانكا الى 70% بسبب ارتفاع اسعار المواد الاساسية وخاصة النفط، ولا يمكن لاي دولة ان تتحمل هكذا مستوى.
واخيرا وليس اخرا سيشهد العالم هجرة الاموال باتجاه الولايات المتحدة والاستثمار في الدولار الاميركي فالعائد عليه مرتفع ومخاطره منخفضة جدا، فعلى سبيل المثال يبلغ العائد على سندات الخزينة الأميركية ما بين 3% الى 3.5% وهو عائد مرتفع لادوات مخاطرها لا تكاد تذكر ومن الطبيعي ان نشهد ارتفاعات اخرى في الدولار نتيجة لزيادة الطلب عليه وانخفاض ملحوظ في العملات الاخرى. وهذا ما سيدفع الكثير من الدول النامية الى رفع اسعار الفائدة بشكل كبير لجذب هذه الاموال ووقف نزيف العملات الصعبة. فالعديد من هذه الدول قام برفع سعر الفائدة باكثر من 1000 نقطة (مقارنة ب 225 نقطة في الولايات المتحدة) وهذه التطورات تعتبر الوصفة الرئيسية للركود الاقتصادي واكثر.
إن فوائد الدولار الأميركي تخص، اما اضراره فتعم. الولايات المتحدة تستفيد فوائد عظمى من اصدار الدولار،وخاصة تلك الدولارات الموجودة خارج حدودها فكل دول العالم من الناحية الفعلية تساعد الولايات المتحدة لمجرد احتفاظها باحتياطيات دولارية فكل دولار يتم اصداره يعتبر دخلا لها لكن الولايات المتحدة في الوقت ذاته لا تكترث لما يجري خارج حدودها. واذا اصرت على ان تبقي على سياسة نقدية لخدمتها فقط، فهي في الواقع تشن حربا اقتصادية على بقية دول العالم. العدالة تقتضي ان تقوم بسحب الدولار من كافة دول العالم لتبقيه داخل حدودها وان تدفع لتلك الدول في مقابل ذلك اصول حقيقية او ذهب، وهو ما لن يحصل ابدا! ولن تتبنى سياسة نقدية متوازنة تخدم مصالح كافة الدول. على الدول النامية وغير النامية ان تعتمد على عملاتها وان لا ترتهن لاي عملة واما بالنسبة لاحتياطياتها، فالامر بسيط، كل ما عليها فعله هو تحويل احتياطياتها من العملات الى الذهب. وسيكون ذلك اقوى رد من الدول النامية على الانتهازية العالمية.