القوة العقيمة في تحديد المستقبل الإسرائيلي

القوة العقيمة في تحديد المستقبل الإسرائيلي
أخبار البلد -   أخبار البلد-
 
يكاد مفهوم القوة في العلاقات الدولية أن يشكل المفهوم المركزي لنظريات العلاقات الدولية.
فمنذ "ثيكوديدس Thucydides" اليوناني "تاريخ الحرب البلوبونزية"، إلى "كوتيليا Kautilya" الهندي "في كتابه أرثاشاسترا أو علم السياسة والاقتصاد"، إلى ابن خلدون العربي "المقدمة"، إلى "مورجانثو Morgenthau" الأمريكي "في كتابه السياسة بين الأمم"؛ سيطرت فكرة القوة على مناهج وفلسفات العلاقات الدولية، ويكاد تعريف القوة أن ينحصر في مفهوم ضيّق عبّر عنه أغلب الباحثين في حقل العلاقات الدولية ولو بصياغات مختلفة، فهو يعني توفر الإمكانيات التي تجعل الدول تمتثل لإرادة دولة أخرى، أي تحقيق الدولة لأهدافها المركزية عبر توظيف قوتها تجاه الأطراف المستهدفة من هذه الأهداف.[2]

بالمقابل تميل أدبيات العلاقات الدولية المعاصرة لتقسيم مكونات القوة إلى ثلاثة هي: القوة الخشنة Hard power؛ لتحقيق الهدف قسراً "مثل القوة العسكرية، والاقتصادية، والجغرافية، والسكانية، والموارد الطبيعية"، والقوة الناعمة Soft power؛ لتحقيق الهدف بالقوة الجاذبة، "مثل مستوى الشرعية، والقيم السياسية، والتعليم، والثقافة، والديبلوماسية…إلخ"، ثم القوة الذكية Smart Power؛ والتي تعني فن إدارة عناصر القوتَين الخشنة والناعمة بشكل تكاملي يعزز فرص تحقيق الأهداف الاستراتيجية بأقل تكلفة وأعلى مردود ممكن.

أما القوة العقيمة التي نطرح مفهومها هنا فهي تعني "العجز لفترة تاريخية طويلة عن الوصول إلى الهدف الاستراتيجي على الرغم من توفر المقومات الثلاثة للقوة". وإذا كان علماء العلاقات الدولية قد انشغلوا في قياس متغيرات القوة، فإن من الضروري الانتقال إلى قياس النتائج ومقارنتها بمتغيرات القوة التي تمّ انفاقها للحصول على تلك النتائج، فإذا كانت التكلفة تفوق كثيراً النتائج فإننا نكون أمام القوة العقيمة، وإذا كان المنظور البراجماتي يقوم على اعتبار الفكرة صحيحة بمقدار النفع المترتب عليها، فإن القوة يجب أن تقاس بمقدار النتائج المتحصل عليها من توظيف متغيراتها المختلفة.

وتمثل تجارب الاستعمار خلال القرنَين الماضيَين، وابتداع الشعوب المقهورة لحروب العصابات، وتفكُّك الإمبراطوريات القديمة والمعاصرة نماذج على قوى عقيمة، وتقدِّر بعض الدراسات أن 25% من النزاعات الدولية انتهت بانتصار الضعيف، مما يعزز من فرضية وجود القوة العقيمة في العلاقات الدولية.[3] ولعل أمثلة الانتصار الفييتنامي على أمريكا، والجزائري على فرنسا، والأفغاني على الاتحاد السوفييتي بداية وأمريكا انتهاء، أو طول النزاع الكوري دون نتيجة لأي من الطرفين، أو العجز الأمريكي عن تغيير النظام السياسي في بعض دول أمريكا اللاتينية مثل كوبا دليل على ذلك.

وعليه، يمكن تحديد مقومات القوة العقيمة في الحالات التالية:

أ. توفر القوتَين الخشنة والناعمة دون توفر القوة الذكية.
ب. طول المدة الزمنية للصراع دون الوصول للهدف، بالرغم من توفر المقومات الثلاثة للقوة.
ج. الارتباك في تحديد الأهداف الاستراتيجية، بالرغم من توفر المقومات الثلاث نسبياً.

وفي هذه الورقة البحثية، سنعمل على تطبيق مفهوم القوة العقيمة بالمعنى الذي أشرنا له على "إسرائيل".

أولاً: عُقم القوة الخشنة:
يتمثل الهدف المركزي لـ"إسرائيل" منذ مؤتمر بازل Basel 1897 في إقامة دولة يهودية على كل أرض فلسطين، وهو ما يعني السيطرة الكاملة على فلسطين، والتخلُّص من سكانها العرب لضمان دولة يهودية، وهو الهدف الذي تزايد طرحه في الأدبيات الإسرائيلية في فترة ما بعد اتفاق أوسلو Oslo Accords 1994، خصوصاً طيلة الفترات التي حكم فيها بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu.

ولتقييم مستوى تحقيق هذا الهدف، لا بدّ من التوقف عند الملاحظات التالية:
1. يتفوَّق عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية على عدد السكان اليهود؛ 7 مليون و234 ألف فلسطيني مقابل 6 ملايين و697 ألف يهودي، أي بفارق 537 ألف، وعلى الرغم من سيطرة اليهود على 98.7% من أراضي فلسطين التاريخية، باستثناء قطاع غزة المحرر، فإن لـ"إسرائيل" مشكلتها الاستراتيجية المتبقية وهي السكان الفلسطينيين… ويبدو أن المشكلة التي لا تعرف لها "إسرائيل" حلاً، بالرغم من كل قوتها، هي كيف تجدُ حلاً للكتلة السكانية الفلسطينية، خصوصاً أن هذه الكتلة تزداد بشكل يعمق المشكلة الإسرائيلية المستعصية، وهو ما يتضح تماماً بلغة الأرقام على النحو التالي:[4]

يبلغ عدد سكان "إسرائيل" الكلي، عرباً ويهوداً، حتى مطلع 2022 ما مجموعه 9.5 مليون نسمة، بينهم نحو 7 مليون يهودي، ومعدل زيادة اليهود سنوياً هو 1.9%، ومن المتوقع أن يكون عدد سكان "إسرائيل" الكلِّي طبقاً لايقاع الزيادة نحو 13.2 مليون سنة 2040، مع ملاحظة أن مصادر الهجرة إليها من يهود العالم بدأ ينضب بالرغم من الزيادة في الشهور الأخيرة بسبب الحرب الأوكرانية، لكن المعدل العام للزيادة من المهاجرين تبقى ما بين 16–18 ألف سنوياً، وهو المعدل خلال الفترة من 2000 إلى 2020.

بالمقابل، فإن عدد الفلسطينيين سنة 2022 في فلسطين التاريخية؛ أراضي الـ 1948، والضفة الغربية، وقطاع غزة، هو 7.2 مليون نسمة؛ 1.9 مليون في الـ 1948، و3.2 مليون في الضفة الغربية، و2.1 مليون في قطاع غزة، واستناداً لمعدل زيادة سنوية تصل إلى 2.3%، فإن عدد الفلسطينيين سنة 2040 سيكون نحو 13.8مليون، وعليه، سيكون عدد سكان فلسطين التاريخية هو 27 مليون نسمة، عرباً ويهوداً، أي بواقع كثافة سكانية تصل إلى نحو ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، علماً أنها تصل حالياً إلى نحو 530 فرد/كم2، وهو ما يجعلها تحتل المرتبة 22 عالمياً في الكثافة السكانية من ناحية.[5] مع استمرار تفوّق العدد السكاني الفلسطيني على اليهودي، وهنا يبرز المأزق التاريخي لـ"إسرائيل"، خصوصاً أن أغلب تجارب الاستعمار الاستيطاني التي عرفت خللاً في نسبة السكان لصالح المواطنين انتهت لهزيمة المشروع الاستيطاني؛ كما حدث في جنوب إفريقيا أو الجزائر أو زيمبابوي، روديسيا سابقاً…إلخ.

2. العسكرة الدائمة: تحتل "إسرائيل" المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر العسكرة بمعدل 437 نقطة،[6] وهي تتصدر هذه القائمة منذ فترة طويلة، ومع أن عدد سكان "إسرائيل" يساوي 0.11% من سكان العالم،[7] إلا أن 8% من مجموع النزاعات الحربية في العالم منذ سنة 1948 كانت "إسرائيل" طرفاً أساسياً فيها،[8] وهو ما يعني أنها دولة ينطبق عليها توصيف عالم الاجتماع السياسي الأمريكي هارولد لاسويل Lasswell Harold بأنها ""الدولة الحامية Garrison State"، أي الدولة التي يعلو معيار الأمن فيها على أي هدف آخر لها"،[9] وعند تطبيق هذا المبدأ الأكثر تعبيراً عن الدولة الحامية، نجد أن تطبيقه على "إسرائيل" في الدراسات الغربية أو التقارير الإعلامية يتردد كثيراً.[10]

وتزداد صورة الدولة الحامية، أو الدولة القلعة العسكرية، عند النظر في بُعدَين آخرَين لهما صلة بالعسكرة وأولوية الأمن؛ هما:
أ. مؤشر السلام: طبقاً لمؤشر السلام العالمي الذي يعتمد على 23 مؤشراً فرعياً ويستند في بياناته إلى تقارير هيئات الأمم المتحدة United Nations (UN) ومراكز أكاديمية مختلفة، فقد سجلت "إسرائيل" مرتبة متخلفة سنة 2022 في مؤشر السلام، حيث تراوحت مرتبتها العالمية في الفترة بين 2010 و2022 بين المرتبة 134 والمرتبة 152، وبشكل تصاعدي خصوصاً في السنوات بين 2018 و2022، بينما جاء ترتيبها بين الدول العشرين الشرق أوسطية في المرتبة 13، ويتبين طبقاً لهذا المؤشر أن تكلفة هذه الوضعية اقتصادياً تصل إلى ما يعادل 8% من إجمالي الناتج المحلي.[11] علماً أن هذا الناتج المحلي تحتل به "إسرائيل" المرتبة 30 عالمياً.[12]

ب. مؤشر عدم الاستقرار السياسي في "إسرائيل": أشرنا في دراسة مفصلة إلى أن معدل الاستقرار السياسي في "إسرائيل" سيبقى في نطاق المستوى السلبي حتى سنة 2030،[13] وهو ما يعني أن هذه الدولة التي مضى على تأسيسها 84 عاماً، 2022-1948، لم تتمكن من تحقيق الاستقرار السياسي الإيجابي ولو في حدِّه الأدنى، مما يعني أن كل مصادر قوتها الخشنة لم تجلب لها هدف الاستقرار، مما يؤسس لإعياء اجتماعي وعمق الشكوك في جدوى المشروع الصهيوني من أساسه.

ويشير الباحثون إلى أن انخراط الدولة في "حروب ممتدة Prolonged Wars" ينعكس سلباً على بقية مقومات القوة الأخرى، وتُقدَّم الولايات المتحدة كنموذج على هذه المسالة، وهو ما ينطبق على "إسرائيل" من حيث التمدد الزائد في نشاطاتها العسكرية من فلسطين إلى البيئة المحاذية، دول الجوار العربي، إلى البيئة الإقليمية؛ وضرب العراق، وضرب السودان، وتونس، والتدخل العسكري في المغرب لمساندتها ضدّ الجزائر، ثم الدولية؛ التدخل العسكري العلني والسري في الدول الإفريقية وعبر الشركات الأمنية…إلخ.[14] ناهيك عن أن "إسرائيل" تحتل المرتبة 18 عالمياً في مؤشر "القوة الناريةGlobal fire power" بواقع 0.2621،[15] وتخوض حروباً متتابعة منذ إنشائها، وبلغ عدد القتلى الإسرائيليين في المعارك مع العرب، طبقاً لأغلب المصادر، 24 ألف و981 قتيلاً منذ سنة 1948، وهو ما يعني معدلاً سنوياً يصل إلى 342 قتيلاً.[16] فإذا أضفنا لذلك أن معدل الإنفاق العسكري الإسرائيلي حالياً (2020) هو 5.6% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 2.2% من إجمالي الناتج العالمي، فإن ذلك يعني أن "إسرائيل" تنفق بمعدل يصل إلى 2.5 ضعف معدل الإنفاق العالمي،[17] وأن إنفاقها العسكري يتزايد في فترات الحروب أو العمليات العسكرية في قطاع غزة بنحو 9% من إنفاقها العسكري المعتاد،[18] ومع ذلك تقع "إسرائيل" ضمن الدول الأكثر عدم استقرار سياسي في العالم، كما أشرنا سابقاً.

نخلص من ذلك إلى أن القوة الخشنة لم تحقق لـ"إسرائيل" حتى هذه اللحظة الهدف الاستراتيجي لها؛ وهو إقامة دولة "يهودية خالصة ومستقرة".

ثانياً: عُقم القوة الناعمة:
أشرنا في تعريفنا السابق للقوة الناعمة أن أدوات تحقيق "الشرعية" تشكِّل جوهر القوة الناعمة، فهي تعني القدرة على إيجاد تكامل بين القوة الخشنة والقوة الناعمة لتحقيق الأهداف، وأن يحظى هذا التكامل بقدر كافٍ من الشرعية والقبول من قبل المجتمع الدولي.

وهنا لا بدّ من الإجابة على التساؤل الاستراتيجي بعيد المدى: ما مدى القبول الدولي "بشرعية السلوك الإسرائيلي وإدارتها لصراعها مع الفلسطينيين بشكل خاص"؟

1. مركز "إسرائيل" في الأمم المتحدة:
يميل أغلب الباحثين إلى اعتبار الالتزام بميثاق وقرارات الأمم المتحدة هو المؤشر الأكثر تعبيراً عن الشرعية الدولية. وفي هذا السياق، تحتل "إسرائيل" المرتبة الأولى عالمياً في عدد الإدانات الموجهة لها من هيئات الأمم المتحدة بسبب خرقها للاتفاقيات والقوانين الدولية، بل إنها أُدينت في بعض هيئات الأمم المتحدة بقرارات تفوق مجموع القرارات التي أُدينت بها بقية دول العالم خصوصاً في مجال حقوق الإنسان، وقد وصل معدل إدانات "إسرائيل" في بعض السنوات إلى ثلاثة أضعاف الإدانات الموجهة لجميع دول العالم الأخرى…[19]

ذلك يعني أن الموقف الرسمي الدولي من "إسرائيل" لا ينطوي على رضا كافٍ لوصف "إسرائيل" بالدولة الشرعية على الرغم من الاعتراف القانوني أو الواقعي بها، فالاتحاد السوفييتي كان دولة قوية بمعايير القوة الخشنة، وكان معترفاً به من أغلب دول العالم، ولكنه انهار ولم تُجْدِ قوته الخشنة نفعاً.

2. موقف الرأي العام الدولي من "إسرائيل":
عند النظر إلى الرأي العام العالمي كما تعبِّر عنه استطلاعات الرأي العام الغربية، نجدُ أن الرأي العام في 23 دولة من أصل 27 دولة، تمثل نحو 75% من سكان العالم، ينظرون للدور الإسرائيلي في العالم نظرة سلبية، أي أن الصورة السلبية لـ"إسرائيل" بين دول العالم تصل إلى 85%، كما أن "إسرائيل" تقع ضمن الدول الأكثر كراهية بين شعوب العالم؛ حيث تحتل المرتبة الرابعة عالمياً في هذا الجانب، وحتى الدول المعروفة تقليدياً بانحيازها لـ"إسرائيل" مثل الولايات المتحدة تشير إلى أن أغلب الشباب وذوي المؤهلات العلمية العليا والديموقراطيون في الولايات المتحدة يميلون لنظرة أقل تعاطفاً مع "إسرائيل" وبشكل متزايد.[20]

3. قوة الجذب للنموذج الإسرائيلي:
تبلغ نسبة يهود "إسرائيل" إلى إجمالي يهود العالم طبقاً لأرقام الوكالة اليهوديةJewish Agency for Israel %45.3 من إجمالي يهود العالم، وهو ما يعني أن 54.7% من يهود العالم لا ينتمون لـ"إسرائيل"، وهو ما يضعف من مقولة أن "إسرائيل" هي "دولة اليهود" أو أنها تشكل نموذجاً سياسياً جاذباً.[21]

وقد جاء في التقرير الذي نشرته صحيفة إسرائيل اليوم Israel Hayom في نيسان/ أبريل 2022؛ من أن 33% من يهود "إسرائيل” الشباب يفكرون بالهجرة المعاكسة للأسباب التالية:[22]

أ. 40% لأسباب معيشية.
ب. 22% لأسباب أمنية.
ج. 18% بسبب التشققات في البنية الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي.
د. 20% لأسباب متفرقة أخرى.

وهذه النسبة تؤكد ضعف القوة الجاذبة للنموذج الإسرائيلي حتى للشباب اليهودي، وهو ما يتعزز بمؤشر آخر؛ هو أن نحو 12 ألف يهودي يهاجرون من "إسرائيل" سنوياً طبقاً للأرقام الإسرائيلية الرسمية.[23]

ثالثاً: عُقم القوة الذكية:
تُشكِّل القوة بمعناها المطلق ذلك المتغيِّر الذي يتحكم في حالة الجسم أو اتجاهه أو موضعه أو حركته، أما في العلاقات الدولية فتعني قدرة الدولة على إجبار وحدات المجتمع الدولي الأخرى على مراعاة مصالحها، ويشترط القانون الدولي "لشرعية القوة" أن تكون نسبية، أي متناسبة في استخدامها مع الغرض المراد تحقيقه من ناحية، وأن تكون الضرورة هي الدافع لاستخدامها من ناحية أخرى.

فإذا انتقلنا لسلوك "إسرائيل" منذ إنشائها على أرض فلسطين، فإن الهدف المركزي أو المصلحة العليا لها هو "السيطرة على الأرض الفلسطينية وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين بأكبر قدر ممكن"، كما أشرنا أعلاه.

ولتحقيق هذَين الهدفَين، فقد سعت لإدارة علاقاتها الدولية عبر التسلح النووي، ما بين 80 إلى 400 رأس نووي، والتحالف مع القوى الدولية القطبية، والتطور تكنولوجياً وعلمياً بشكل يتفوّق على أي دولة في الإقليم، وأجبرت الأنظمة السياسية العربية على الاعتراف التدريجي "بشرعية وجودها والتطبيع معها". لكن الصراع لم يتوقف، وتدخل "إسرائيل" معركة عسكرية بمعدل مرة كل خمس سنوات منذ إنشائها، كما بيّنا في تناول القوة الخشنة، وهو معدل لا تعرفه أغلب دول العالم، ولعل أحد أسباب ذلك هو أن "إسرائيل" في إدارتها للقوة الذكية، لا تمتلك رؤية لحلِّ القضية الفلسطينية خارج نطاق القوة الخشنة، بل يمكن الافتراض بأن لديها ما يسميه الباحثون في العلاقات الدولية بـ"العمى الاستراتيجي Strategic Blindness"، والذي يعني "وصول الكيان السياسي إلى نتائج غير مقصودة وغير متوقعة Unintended and Unexpected"،[24] فهل كان العقل الاستراتيجي الصهيوني في بداياته يتوقع أن يدوم الصراع أكثر من قرن، من وعد بلفور إلى الآن، أو هل توقع أن تخوض "إسرائيل" 14 حرباً يتخللها عمليات عسكرية وهجمات متواصلة من المقاومة الفلسطينية حتى ساعة كتابة هذه السطور، وبمستوى جعل "إسرائيل" في مرتبة متدنية من الاستقرار السياسي أو في مؤشر السِلم حتى الآن؟ أو هل كان هناك توقع لواضعي المشروع الصهيوني بأن معدل النمو الاقتصادي في إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي سيتراجع من 30% في منتصف الخمسينيات إلى 5% حالياً؟ أو أن استمرار التجنيد في صفوف الشباب الإسرائيلي ستصل تكلفته إلى 4.3% من إجمالي الناتج المحلي؟ أو أن المعدل السنوي للإنفاق على متطلبات استمرار احتلال الضفة الغربية يصل إلى 6.8 مليار دولار وهو ما يعادل نحو 8.7% من الموازنة الحكومية السنوية؟[25]
لكن السؤال الأصعب هو: ما هو الحل الأنسب في منظور العقل الاستراتيجي الإسرائيلي للصراع العربي الصهيوني حالياً؟ هنا يظهر العمى الاستراتيجي بأجلى صوره، فالإسرائيليون لا يملكون حلاً، ولكل حلّ من ما يقترحونه من الحلول ثغراته التي تحيي الهاجس الأمني لدى صانع القرار السياسي الإسرائيلي، وهو ما يتضح في الحلول المقترحة التالية: [26]

1. الحل بالتهجير القسري لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين:
يمكن أن يتم ذلك عبر تضييق سبل الحياة وإيجاد اضطرابات بين الشرائح الفلسطينية، بين غزة والضفة أو داخل كل منطقة منهما، قد تصل لحرب أهلية تدفعهم للجوء نحو الدول المجاورة أو أن تمارس "إسرائيل" سياسات الطرد التعسفي، لكن ذلك سيُعيد فتح الملف الفلسطيني من جديد مع الدول العربية المجاورة، خصوصاً نتيجة الضغوط المعيشية، ونتيجة لمواقف بعض القوى السياسية العربية من هذا الموضوع، وتكشف مضامين الحوار، الذي تمّ كشفه سنة 2022، في أوراق البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان Ronald Reagan ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجن Menachem Begin عن الاضطراب الذي سيثيره تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار، ومعارضة ذلك من قبل بعض القوى العربية، بما فيها بعض القوى العربية ذات العلاقات التقليدية مع الغرب.[27]

كما أن الخبرة التاريخية للفلسطينيين ستجعل غواية اللجوء أقل كثيراً من السابق، ناهيك عن ردود الفعل الدولية، أيّاً كان مستواها، إلى جانب عدم ضمان نجاح هذا السيناريو في ظلّ العدد الكبير للفلسطينيين في فلسطين التاريخية.

2. إبقاء الوضع الحالي:
أي استمرار التوتر العالي بين الفلسطينيين واليهود، واستمرار الاستنفار الإسرائيلي، والتهديد المستمر لاشتعال الحروب مجدداً مع دول عربية أو إسلامية، وعدم ضمان حدوث تغيرات في دول عربية تعيد الأمور إلى سابق عهود التوتر العالي…إلخ، بل إن الإسرائيليين بعد قيام الثورة الإيرانية أصبحوا أكثر إحساساً بعدم القدرة على التطويع التام للمنطقة لصالح استراتيجياتهم.

3. مشاركة دول عربية في امتصاص تدريجي للفلسطينيين:
ويتم ذلك عبر فتح المجال لهم للعمل والاستقرار في الدول العربية، خصوصاً الأردن والخليج ولبنان، وتقديم مشروعات تنموية في بعض المناطق القريبة من فلسطين لتتحول تدريجياً إلى "وطن بديل" سواء بجوار غزة في سيناء أم في الجزر السعودية التي تنازلت مصر عنها مؤخراً، تيران وصنافير، أم في مشروع "نيوم" السعودي…إلخ، وقد تسهم دول غربية مثل كندا في امتصاص جزء من الفلسطينيين.

لكن السيناريو السابق يحتاج لفترة طويلة، كما أن التزايد السكاني سيجعل من عدد الفلسطينيين عبئاً على الدول "المستضيفة"، ناهيك أن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لأسباب عديدة جداً، هو الأعلى عالمياً، إلى جانب أن نسبة مهمة من الفلسطينيين لن يقبل "فخّ الغواية هذا" وسيبقى في أرضه حتى لو كان عارياً جائعاً.

4. الإبادة العرقية:
وقد يتم ذلك بعمليات عسكرية واسعة، أو بالقتل الهادئ عبر إيجاد ظروف بيئية خانقة؛ من خلال دفن النفايات النووية أو غيرها، أو عبر عقاقير معينة يجري ترويجها بطريقة أو أخرى، أو التسميم في المياه…إلخ، لكن ذلك كله تعترضه مشكلة هي أن الفصل في الحياة اليومية والظروف الطبيعية بين العرب واليهود أمر لم يعُد ممكناً، مما يشكل خطراً على الجميع، خصوصاً مع التزايد السكاني والارتفاع العالي للكثافة السكانية نظراً لضيق الحيّز المكاني، ناهيك عن ردة الفعل العربي والدولي على مثل هذه السياسات وتداعياتها على الصورة الإسرائيلية.

5. القبول بدولة فلسطينية في الضفة وغزة للتخلص من عبء السكان الفلسطينيين:
لكن هذا أمامه مشكلة المستوطنات، والقدس، ومصادر المياه المشتركة، إلى جانب خسران "إسرائيل" للعمق الاستراتيجي للدولة، ولضمان الفواصل الحدودية لها، خصوصاً نهر الأردن وما يحققة لـ"إسرائيل" من جوانب اقتصادية وعسكرية، ناهيك أن الإسرائيليين يرَون بأن الضفة الغربية في حالة استقلالها قد تكون بؤرة متجددة للمقاومة، والدليل نموذج غزة… وأيّاً كان ضعف الاحتمال، فـ"إسرائيل" لا تقامر.

6. مشروع دولة واحدة تجمع الجميع:
ويبدو هذا المشروع مغرياً من منظور قيمي خصوصاً في الدوائر الليبرالية، لكن التزايد السكاني سيجعل من "إسرائيل" نموذجاً مكرراً لنظام الفصل العنصري مع ما يترتب على احتمال الوصول للفشل في جنوب إفريقيا نفسه نتيجة الفصل العنصري… أما القبول بالفلسطينيين على قدم المساواة فيعني أن يكون رئيس الوزراء وأغلبية أعضاء الكنيست Knesset من الفلسطينيين بحكم التفوق السكاني عددياً، وهو ما يفقد "إسرائيل" هويتها، بل وحتى وجودها السياسي.

لقد وضعت "إسرائيل" ستة لاءات لاستراتيجيتها في مجال التسوية هي "لا" لـ:[28]

أ. حلّ الدولتين.
ب. لا لحلِّ الدولة الواحدة.
ج. لا للتفاوض لإيجاد حلٍّ نهائي بل لإيجاد آليات لتخفيف أعباء الاحتلال على "إسرائيل".
د. لا تفكيك المستوطنات.
هـ. لا سيادة للفلسطينيين على شرقي القدس.
و. لا عودة للاجئين.

فإذا أضفنا لذلك إلى أن كافة استطلاعات الرأي العام العربي سواء منها الاستطلاعات الغربية أم العربية؛[29] تشير إلى نتيجة محددة هي أن نسبة العرب الذين يرفضون التطبيع، أو اتفاقات أبراهام Abraham Accords، مع "إسرائيل" هي الأعلى بل إنها تسير في اتجاه التصاعد، فإن ذلك يعزز حرمان "إسرائيل" من بيئة إقليمية طيّعة ومتقبّلة لاستراتيجيتها.

الخلاصة:
على الرغم من كل ما أنجزته "إسرائيل" من المشروع الصهيوني؛ من سيطرة على الأرض، أو اختراقات للبيئة العربية، أو تفوق عسكري وتقني على المنطقة العربية، إلا أن كل ذلك لم يوصلها إلى الإقرار بشرعيتها التامة وغير الملتبسة، ولا إلى التخلص من المواطنين الفلسطينيين الذين يفوق عددهم عدد اليهود في فلسطين التاريخية، ولا وقف المقاومة ولا تخفيف أعباء الدفاع عن ذاتها، ولا القدرة على رسم صورة إيجابية لها في بيئتَيها الإقليمية والدولية، ناهيك عن التشققات الاجتماعية في جدرانها الاجتماعية الداخلية، وهو ما يعزز فكرة أن القوة التي تمتلكها "إسرائيل" هي قوة عقيمة لم توصلها لمرحلة الانتقال للدولة الطبيعية، وهو ما نراه مقدمة لإعياء قد يأخذها في طريق كافة أنماط الاستعمار الاستيطاني المشابه لها، خصوصاً من الجوانب الديموجرافية، والجيو–سياسية، والجيو–استراتيجية.

من جانب آخر، تشعر "إسرائيل" بالقلق مستقبلاً من مصادر جديدة مثل: الخطر الإيراني، والمخاوف من انعكاسات التخلي الأمريكي التدريجي عن أولوية الشرق الأوسط مقارنة بالأقاليم الجيو–استراتيجية لها. وتقلق من احتمالات انقلاب النزعة التركية تجاه "إسرائيل"، خصوصاً نتيجة علاقة رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan بالحركات الإسلامية ونزعة السيطرة على حوض المتوسط، ثم الخوف من ما يستبطنه المجتمع العربي الرافض للوجود الإسرائيلي بشكل لا لبس فيه، ثم استمرار المقاومة الفلسطينية ولو بين مدٍّ وجزر ولكنها لم تتوقف، ويكفي أن نضع خلاصة لدراسة صادرة عن أحد أهم مراكز الدراسات السياسية الإسرائيلية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 للتأكد من القلق المتواصل، حيث جاء في هذه الدراسة حرفياً "من المهم أن نصوِّر بدقة الوضع الجديد الذي ظهر تدريجياً على مدى الجيل الأخير، وأن نطلق تحذيراً بصوت عالٍ وواضح ضدّ التفسير المفرط في التفاؤل والتوقعات التي لا أساس لها من الصحة؛ لتغيير العلاقات العربية الإسرائيلية في المستقبل المنظور".[30]
شريط الأخبار التهتموني تبحث تعزيز التعاون لتنظيم قطاع الشحن البحري وتطوير الخدمات اللوجستية هذا هو موعد بدء العمل بالمستشفى الافتراضي الاتحاد الأردني للتأمين يُعتمد كمركز تدريبي دولي بتوقيع مذكرة تفاهم مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الأمن يوضح حول حقيقة وجود كاميرات على طريق الـ 100 لاستيفاء رسوم البطاينة يوجه رسالة بشأن استقالته من حزب إرادة "المياه": مشروع الناقل الوطني بمرحلة مفاوضات مع المناقص ونتوقع بدء تنفيذه منتصف 2025 "الطيران المدني" تُقيّم إعادة تشغيل الطائرات الأردنية إلى مطار بيروت الحكومة: نحترم استقلالية الإعلام الملك يؤكد للرئيس القبرصي حرص الأردن على تعزيز التعاون بين البلدين منحة بقيمة 15 مليون دولار لتنفيذ 18 مشروعا في البترا هل نحن على أبواب أزمة مالية جديدة؟ حسّان يوجه بضرورة التوسع في برامج التدريب المهني لمضاعفة فرص التشغيل مباجثات اردنية سورية حول ملف حوض اليرموك "النقل البري": السماح بتسجيل مركبات الهايبرد للعمل على نقل الركاب بواسطة السفريات الخارجية حسان يؤكد تقديم الحكومة تسهيلات لتطوير الاستثمارات وتوفير فرص تشغيل والوصول لأسواق خارجية تقرير للبنك الدولي يهز أمانة عمان ويكشف بأنها تغرق بالديون.. أرقام وتفاصيل عامر السرطاوي.. "استراحة محارب" وزير الداخلية يوعز للحكام الإداريين بالإفراج عن 486 موقوفاً إدارياً الإعتصام الـ (93) لمتقاعدي الفوسفات .. من يستجيب لمطالبهم في التأمين الصحي؟! .. شاهد الفيديو تعميم حكومي على جميع الوزارات والمؤسسات