أخبار البلد - نجح الرئيس التونسي قيس سعيد في تمرير الاستفتاء على الدستور بنسبة معقولة قاربت الثلاثين في المئة، وحافظ على جمهور من الأنصار والداعمين له يفوق مليوني ناخب، وهو ما يسمح له بوضع التعديلات الكافية التي تتيح له العمل في وضع مريح لتنفيذ برنامجه.
لكن شعبية الداخل التي تتيح له التحرك بحرية تامة تحتاج إلى دعم خارجي واضح لمساعدة تونس على الخروج من الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها. لا يكفي تغيير القوانين وتصعيد شخصيات نزيهة ونظيفة إلى واجهة السلطة، هناك ما هو مهم أيضا لأيّ دولة، وهو تأمين المال الكافي لإحداث التغييرات المنشودة خاصة حين تكون دولة في مثل وضع تونس بلا نفط ولا غاز ولا معادن يمكنها أن تراهن عليها في بناء مستقبل مستقل وبشعارات تتناقض مع المنظومة السائدة دوليا.
من حق قيس سعيد أن يبني الدولة على الشاكلة التي يريد، وفق النظام الرئاسي أو المجالسي طالما أن الشعب قد اختاره بالصندوق وزكى تعديلاته الدستورية، لكن من واجبه أن يفكر في ما بعد تنزيل أفكاره وبرامجه، وكيف يمكن الحصول على التمويل الضروري لإخراج البلاد من أزمتها.
خروج تونس من فوضى السنوات الماضية، يسمح لها بتسويق نفسها إلى السوق الدولية كدولة تتسم بالنزاهة
لن تكفي "الأموال المنهوبة” التي يذكرها الرئيس سعيد باستمرار لسد الفراغات الكثيرة في ميزانية دولة تعيش على الضرائب، فضلا عن أن هذه الأموال مثيرة للتساؤلات والشكوك في غياب أرقام واضحة وتحركات من الدولة لاستعادتها عبر القوانين والمسالك الدولية المعروفة.
كما أن المحاسبة التي يطالب بها أنصار الرئيس ضد من حكموا في المرحلة الماضية لن تفضي إلى جمع الكثير من الأموال، فهناك أموال كثيرة تم تبديدها تحت عناوين مصاريف حكومية وغطاء أنشطة مشروعة وداخل الموازنة، ما يجعل المحاسبة كلمة فضفاضة.
والأمر نفسه بالنسبة إلى أموال رجال الأعمال ضمن ما بات يعرف بالمصالحة الوطنية، فهناك الكثير من الضجيج قد ينتهي حين الوقوف على التفاصيل إلى نتائج مخيبة للآمال، فضلا عن أن التمسك بتحميل رجال الأعمال مسؤولية الأزمة ونتائجها لتجميع الأموال قد يفضي إلى نتائج عكسية تدفع البعض إلى مغادرة البلاد مثل ما حصل مع مئات آخرين كانوا غادروا هربا من الشعبية التي حكمت خلال السنوات العشر الماضية وتعاملت مع أصحاب المال كأعداء طبقيين وليس كشركاء في التنمية.
صحيح أن الدولة يمكن أن تجمّع الأموال حين تتحكم في النفقات وتحارب الفساد، لكنها أموال لا تكفي لتنفيذ مشاريع كبرى وتعديل منوال التنمية ليكون أقرب إلى عامة الشعب، وهو ما يجعل اللجوء إلى الاستدانة من الخارج أمرا لا غنى عنه.
وفي ظل التطورات التي يشهدها الإقليم والعالم، فإن فرص الحصول على تمويلات من دول أمر صعب، ولا وجهة أمام تونس سوى صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وهي مؤسسات في ظاهرها مؤسسات مالية دولية، لكنها في الأصل والواقع مؤسسات مالية أميركية، وتعطي وتمنع بحسب توافق ذلك مع أجندة الولايات المتحدة الأميركية.
تونس لا تمتلك بدائل حقيقية للاتجاه بعيدا عن هذه الصناديق. فروسيا في أزمة اقتصادية، ودول الخليج باتت تركز جهدها على اقتصادياتها المحلية وتبني مشاريع عملاقة استعدادا لمرحلة ما بعد النفط. أوروبا بما في ذلك ألمانيا وفرنسا لم تعد في وضع يسمح لها بدعم حلفائها جنوب المتوسط.
أعتقد أن الأزمة الناشئة بين تونس والولايات المتحدة بعد المصادقة الشعبية على الدستور الجديد يمكن حلّها بيسر عبر القنوات الدبلوماسية بالتواصل مع واشنطن وفهم سبب انزعاجها الظاهر من التغييرات التي تجريها تونس بالرغم من أن المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس قال مباشرة بعد إعلان نتائج الاستفتاء إن بلاده تدعم خيارات الشعب التونسي.
لا ندري كمتابعين السر وراء التصعيد المفاجئ للإدارة الأميركية في تصريحاتها تجاه تونس، ما استدعى تدخل الرئيس قيس سعيد للرد عليها ولو بشكل غير مباشر. لكن الدبلوماسية الهادئة يمكن أن تفهم سبب هذا التوتر وتعمل على حله من خلال تقديم التوضيحات الكافية وإزالة اللبس لأحد أهم الشركاء الاقتصاديين والأمنيين لتونس.
من المستبعد أن يكون سبب التوتر هو مآل الإسلاميين ما بعد الاستفتاء، فالولايات المتحدة تفكر أولا وأخيرا في مصالحها، ويمكن أن تتخلى عن الإسلاميين إذا كان ذلك لا يمسّ من دورها ونفوذها مثلما حصل في مصر في 2013، فقد قبلت الولايات المتحدة، وفي ظل حكم الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الذي ينسب إلى إداراته دعم الإسلاميين، أن يقوم نظام جديد على حساب حكم الإخوان ولم تتأسف عليهم وتعاملت مع نظام السيسي كأمر واقع.
ليس الإسلاميون أكثر من ورقة من بين عشرات الأوراق التي تقلّبها الولايات المتحدة بين يديها في مسار تثبيت نفوذها. كما أن "تآكل الديمقراطية”، كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، لم يكن تاريخيا سببا تتحرك لأجله واشنطن للاحتجاج أو الغضب، فهو ليس أكثر من ورقة مضللة تخفي تفاصيل أخرى للقلق الأميركي.
الأميركيون منزعجون من التحالفات التي تتشكل في الإقليم، ورغم أن المتحركين الإقليميين هم في الغالب حلفاء واشنطن، لكنها تريد أن يتم كل شيء تحت نظرها وألا يكون على حسابها كفاعل دولي رئيسي. هناك خلافات مع اللاعبين في الملف الليبي وخلافات بشأن النفوذ في أفريقيا. ولا شك أن تونس تتعامل مع هذه الأحلاف وفق مصالحها وتنأى بنفسها عن القضايا والصراعات التي لا تعنيها.
صحيح أن من حق تونس أن تنزعج للتدخل الأميركي في شؤونها، فما تقوم به من انتخابات واستفتاءات وتعديلات جذرية هو مسار يخصّها، لكن يجب ألاّ تأخذ الحساسية من التدخلات الخارجية بعدا أبعد من ذلك ليبدو الخطاب الدبلوماسي التونسي وكأنه خطاب من زمن الحرب الباردة.
الآن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح، وحيث توجد مصلحة تونس عليها أن تتحرك للحصول عليها من دون أن تتنازل عن ثوابتها وخصوصياتها، على أن يحل الخلاف بعيدا عن الأضواء.
إن خروج تونس من فوضى السنوات العشر الماضية، وما خلفته من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية على البلاد، يسمح لها بأن تخرج إلى السوق الدولية لتقدم نفسها من جديد كدولة تتسم بالشفافية والنزاهة وبالرغبة في إصلاح اقتصادها وفق قواعد ثابتة تمكنها من تسديد ديونها في الوقت المناسب. العالم لا يطلب أكثر من هذا ولن يناقش تفاصيل البلاد الداخلية ولا توازناتها وخلافاتها. التدخلات الخارجية تأتي من الفراغات وعناصر الضعف الكثيرة للدول الفاشلة.