اخبار البلد - تتجه قيادات الإخوان نحو تغيير ملاذاتها الآمنة باتخاذ إيران وجهة جديدة في ظل القيود المشددة التي تفرضها عليها تركيا، لكن محللين يقولون إن هذه الخطوة لن تكون سهلة وسريعة وستقابلها الكثير من العراقيل التي تفرض على الجانبين - طهران والإخوان - التفكير جيدا في ما سيكسبه كل طرف من علاقته بالآخر وسط الأزمات المتعاقبة التي تضرب صورة الاثنين وتحصرهما في زاوية ضيقة إقليميا ودوليا.
تجدد الجدل بشأن البدائل التي يمكن أن يلجأ إليها قادة جماعة الإخوان المصريين المغادرين لتركيا لتوفير ملاذ آمن لهم في ظل الحديث المتزايد عن تنازلات جديدة قد تقدم عليها أنقرة لتسريع وتيرة التقارب مع القاهرة والدفع بمسار المصالحة السياسية معها إلى الأمام.
وحظيت إيران بقدر كبير من التقديرات والتكهنات في هذا الصدد تليها ماليزيا، في حين كان للأولى النصيب الأوفر من النقاش المثار نظرًا إلى اشتباكها المباشر مع قضايا حيوية في المنطقة وتاريخها الطويل في دعم تيار الإسلام السياسي وعلاقاتها الملتبسة بجماعة الإخوان والحركات الجهادية، وما وثقه الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار” المصري الذي عرض في رمضان الماضي من صلات قوية وخطط تنسيق وتعاون بين الطرفين خلال العام الذي حكم فيه الإخوان مصر.
تكثيف العمل الدرامي للضوء على الروابط المنهجية بين فكر ومشروع الإخوان وفكر ومشروع طهران الشيعي بتوثيق انحياز قادة الجماعة إلى تطبيق النموذج الإيراني مقابل فتور حماستهم للنموذج التركي، لم يكن ترفا، فهي رسالة سياسية تحوي الكثير من الإسقاطات التي تتجاوز الماضي وتصلها بالحاضر.
وقال الخبير في شؤون الحركات الإسلامية طارق أبوالسعد إن جماعة الإخوان أرسلت قيادات من الصف الثاني والتقوا بمسؤولين أمنيين في إيران لترتيب انتقال عدد من عناصرها وقادتها خاصة المدانين في قضايا جنائية إلى هناك في ضوء توقعات أن تضع تركيا المزيد من القيود على تحركاتهم وأنشطتهم على أراضيها.
وأكد أبوالسعد لـ”العرب” أن محاولات عديدة لانتقال قيادات إخوانية إلى إيران في السابق جرى إفشالها من الجانب التركي كمحاولة القيادي رضا فهمي عضو الشؤون الخارجية ببرلمان الإخوان السابق، كاشفًا عن العديد من اللقاءات التي جرت بين قادة من الإخوان وقادة بالحرس الثوري بداية من 2014 لتنسيق إيجاد مأوى لقادة مدانين وآخرين لا يمتلكون أوراقًا ثبوتية.
تنسيق أم إيواء
طارق أبوالسعد: الإخوان يتجهون نحو إيران بعد تقييد حركتهم في تركيا
قد تقبل الأجهزة الإيرانية التنسيق بغرض إيواء قادة هاربين من تنفيذ أحكام قضائية على غرار ما تفعله مع قادة القاعدة والجماعة الإسلامية، لكنها لن تقبل تطوير التعاون مع الجماعة بالنظر إلى توخيها ضبط علاقاتها مع الدول العربية وفي مقدمتها مصر.
وتجد طهران أنها تتعامل حاليًا مع جماعة ضعيفة ومطاردة وتفتقر إلى النفوذ ونزعات الغرور التي كانت تتملكها في السابق، ما يعني أنها ستفرض شروطها على التنظيم الذي يبحث حاليًا عن مأوى لقادته لا عن حليف يدعمه في خططه التوسعية والعودة إلى السلطة.
ويتسق ترجيح البعض لتجاوب الأجهزة الإيرانية مع محاولات انتقال بعض قادة الإخوان إلى إيران مع حرصها على تصوير نفسها كملاذ للمستضعفين والمطاردين خاصة المنتمين إلى تنظيمات الإسلام السياسي، فضلًا عن حرصها على أن تكون علاقتها مع هذا التيار أوثق من علاقات قوى إقليمية سنية به وفي مقدمتها تركيا بغرض استخدامه كورقة ضغط سياسية إقليميًا ودوليًا.
وتفضل جماعة الإخوان بشكل عام توجه عناصرها إلى دول أوروبية لاستغلال مساحات الديمقراطية والحرية هناك مع خبرتها السابقة في تقديم نفسها كجماعة سياسية مضطهدة.
لذلك انتقل العديد من الإعلاميين المحسوبين على الجماعة من تركيا إلى دول أوروبية مثل محمد ناصر ومعتز مطر بعد أن دأبا على التحريض ضد النظام المصري من قنوات تبث من إسطنبول، على الرغم من إعلان قيادات بميليشيا الحوثي المدعومة من إيران عن ترحيبهم باستضافة واحتضان قيادات جماعة الإخوان وإعلامييها وتوفير الحماية اللازمة لهم.
ويرجع ذلك إلى حرص قادة جماعة الإخوان على علاقاتها الدولية وصورتها في الدول الغربية والولايات المتحدة تحديدا، لأن تطوير العلاقات مع إيران كدولة مصنفة كراعية للإرهاب وتحتضن العديد من المنظمات التي تتبنى العنف سيحول الإخوان في نظر دول أوروبية إلى جماعة إرهابية.
ويحقق وضع جماعة الإخوان الحالي وحاجتها إلى ملاذ آمن يؤوي قادتها وعناصرها المدانين قضائيًا بشكل تلقائي محددات وشروط إيران بشأن علاقات كهذه، بحيث تلتزم الجماعة بمصالح إيران الإقليمية مقابل تحقيق مطالب محدودة لكنها ملحة بالنسبة إلى الجماعة مثل توفير الحماية للقادة المحكوم عليهم بأحكام نهائية في مصر، وتسهيل انتقال القيادات الذين لا يملكون أوراقًا ثبوتية بين دول العالم، ومن إيران إلى دول وسط آسيا ذات الأغلبية المسلمة، وفي النهاية لا تريد طهران صداما مباشرا مع القاهرة، لكنها لا تمانع وجود مناوشات خفية معها دون هز الثوابت الضمنية التي ارتضاها الطرفان في السنوات الماضية.
رسائل مشفرة
الأجهزة الإيرانية لن تقبل تطوير التعاون مع الجماعة بالنظر إلى توخيها ضبط علاقاتها مع الدول العربية وفي مقدمتها مصر
من الصعوبة أن يحظى قادة الإخوان بالأمان الذي كانوا يجدونه في تركيا، لأن الجماعة بشكل عام حريصة على صورتها دوليًا ولدى الولايات المتحدة، وهو ما سيتأثر بشكل كبير إذا ترسخت فرضية احتمائها بالنظام المعروف بكونه أكثر رعاية ودعمًا للإرهاب في العالم.
وظهرت التحركات واللقاءات الأخيرة من منطلق كونها حالات فردية لبعض القيادات الهاربين وليست استراتيجية جديدة للتنظيم، طمعًا في أن تكون إيران مجرد محطة انتقالية قبل رحيلهم من تركيا إلى دولة أوروبية وغالبًا ستكون بريطانيا.
ووثّق مسلسل "الاختيار” محاولات الإخوان استنساخ نموذج الحرس الثوري بالتعاون مع قادة أمنيين إيرانيين زاروا القاهرة والتقوا بقادة بالجماعة لهذا الغرض، وفتح المجال لأن تبعث القاهرة برسائل مشفرة مفادها أن الأجهزة المصرية تدرك أن ما تلقاه الإخوان من دعم إيراني أكثر تأثيرًا وخطورة من أدوار قوى سنية عُرفت بدعمها القوي للجماعة.
وجرى استحضار ازدواجية القيادي الإخواني عبدالمنعم أبوالفتوح من جهة وخيرت الشاطر ومحمد بديع ومحمد مرسي من جهة أخرى خلال التسريبات التي أُذيعت في نهاية حلقات المسلسل، لأن أبوالفتوح الذي جرى تهميشه ونقض وعود مساندته من قبل الجماعة كان يعد بتطبيق النموذج التركي متخذًا الرئيس رجب طيب أردوغان ومشروعه قدوة له من خلال عمل مرحلي لا يتعجل الأسلمة ويتوخى التحرك تحت ستار العلمانية ويركز على الاقتصاد كما كانت بدايات حكم أردوغان.
وفضلت المجموعة التي هيمنت على مقاليد الجماعة وسعت للهيمنة على مقاليد السلطة في مصر على مدى عقود قادمة تطبيق النموذج الإيراني بالتركيز على الهيمنة على مفاصل الدولة وتقويض التيارات المدنية واستتباع المؤسسات لقرار الجماعة وسيطرة مكتب الإرشاد على القرار الرئاسي، وتلافي أي تهديد لحكم الجماعة من الجيش أو من تحركات شعبية في الشارع بتشكيل قوات مسلحة مدربة على غرار قوات الحرس الثوري الإيراني.
ويرجع تمسك القيادة التركية بدعم جماعة الإخوان واستمرارها في هذا المسار حتى بعد فشل حكم الإخوان وعزل محمد مرسي إثر ثورة شعبية ساندها الجيش في مصر، إلى التنافس الخفي بين إيران وتركيا على قيادة العالم الإسلامي ما دفعهما إلى التسابق بهدف الفوز بعلاقات أوثق بجماعة الإخوان بوصفها أكبر تنظيم إسلامي في الشرق الأوسط والعالم.
وتجاهلت أنقرة كثيرا ابتعاد الإخوان عن تكتيكات أردوغان في السيطرة المتدرجة واستعجلت الأسلمة والهيمنة وفق النموذج الإيراني، ما عكسه تصريح له أغضب قادة الإخوان حينما زار القاهرة في سبتمبر 2011، حيث نصح المصريين بالاقتداء بنموذجه العلماني.
نظرت تركيا إلى نفسها بوصفها الأوْلَى بخدمات الجماعة السنية لتعزيز نفوذها الإقليمي في المجال السني العربي، ولذا لعبت جماعة الإخوان على المسارين فلم تقوّ علاقتها بطرف على حساب الآخر، ووجدت أن كليهما سيحين وقت الاستفادة منه وفقًا للظروف ولمتغيرات الأوضاع بالمنطقة.
واضطرت جماعة الإخوان إلى التخفيف من التخديم على علاقاتها بإيران إعلاميًا على وقع انتقاد السلفيين لها وما جرى من أحداث واكبت زيارة الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد إلى القاهرة فضلًا عن بعض العمليات الطائفية ضد ناشطين شيعة مصريين، مبرزة في حينها التحالف المصري – التركي بوصفه تحالفًا سنيًا مقبولًا، وهي حاليًا بحاجة إلى العودة إلى الشريك الإيراني مضطرة على وقع أزمتها الحالية، حيث تسعى أنقرة لإنهاء خصومتها مع القاهرة بتلبية مطالبها في ما يخص ملف الإخوان.
وعلى الرغم من لجوء جماعة الإخوان إلى الوجهة الإيرانية مضطرة خلال مرحلة تعاني فيها من التراجع على كل المستويات عربيًا وإقليميًا بحيث لا يشجع وضعها الحالي على التعاون معها، إلا أن طهران قد تجدها فرصة للبدء من المربع الأول في ما يتعلق بتحقيق الأهداف البعيدة من وراء إقامة روابط وثيقة مع جماعة الإخوان، وفي مقدمتها تعميم نموذجها الأيديولوجي الثوري في الفضاء السني، وتخفيف حدة العداء لها من خلال وكلاء سنة في مواجهة تشويه التيار السلفي والسلفي الجهادي ممثلًا في داعش لصورتها وتحريض قطاع كبير من الجماهير المسلمة على كراهيتها.
ويشفع لجماعة الإخوان لدى إيران رغم ترجيحها للحليف التركي في مرحلة قوتها وهيمنتها على السلطة في مصر تاريخها القديم في دعم ومساندة الثورة الإسلامية بزعامة آية الله الخميني.
تجيد إيران اللعب والمناورة بورقة جماعات الإسلام السياسي السنية وتتعمد وضع حدود للعلاقة حتى لا يطغى النفوذ الحركي أو يخل في مرحلة ما بمصالح النظام والدولة، كما تتوخى القيادة الإيرانية أن تكون هي من ترسم خرائط التحرك وتحدد مستويات النشاط وفق أهدافها وحساباتها لا وفق أهواء قادة الإخوان، وهو الخطأ الذي وقعت فيه القيادة التركية وتجد الآن صعوبة بالغة في تداركه وتصحيحه.
ولذلك سبق ورفض آية الله الخميني عرض وفد الإخوان عندما زاره سنة 1979 بعد انتصار الثورة في إيران بشأن مبايعة جماعة الإخوان له كخليفة للمسلمين، وهو ما قبله أردوغان لاحقًا، ورغم جاذبية العرض إلا أن الخميني رفضه عمليًا عندما أصدر الدستور الجديد للجمهورية الإسلامية وفيه أن المذهب الجعفري مذهب رسمي وولاية الفقيه كنائب عن الإمام الغائب.
ويعني هذا أن الخميني رحب بالتعاون لكنه رفض الاندماج الذي يضيع هوية المشروع الشيعي في السلطة، فضلًا عن الحرص على عدم الارتهان للجماعة تحت وطأة ما منحته إياه من نفوذ ديني واسع، حيث أرادها أداة ضمن أدوات تحقيق أهدافه لا أن تكون لها الكلمة والتوجيه بفضل ما تعتقد أنه تحالف شركاء على قدم المساواة.
ويكشف تاريخ تكتيكات إيران عقب نجاح الثورة الإسلامية مع فصائل تيار الإسلام السياسي السني عن تصميم على وضع حدود في العلاقة بحيث تكون طهران المركز الذي يحرك الأدوات بالمنطقة العربية، ووضح ذلك عندما بدأ الخميني قبل أي أحد دعايته ضد الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما أصدر فتوى بتكفيره وأنه ليس مسلمًا كما يزعم بعد أن تعامل مع أعداء الإسلام في إشارة إلى اتفاقية السلام التي أبرمها بين مصر وإسرائيل.
فتوى الخميني بتكفير السادات هي التي نشطت فكرة الحاكمية التي كانت انزوت لفترة بعد إعدام سيد قطب منتصف الستينات وشجعت قادة الإسلام السياسي في مصر على تقليد الفتوى الشيعية وصبغها بالطابع السني وكان واضحًا تأثر فتوى محمد عبدالسلام فرج لاغتيال السادات في كتابه "الفريضة الغائبة” بالفتوى السابقة لها عندما أهدر الخميني دمه وحكم بكفره، وردد من اغتالوه من الجهاديين عام 1981 نفس المبررات التي ساقها الخميني بشأن الصلح مع إسرائيل.
ومضى القادة الإيرانيون مع تنظيم القاعدة على نفس النهج، فليس مسموحًا أن ينظر التنظيم لنفسه كحليف لأنه ليس أكثر من أداة تدعمها طهران بقوة وتوفر لقادته الملاذات للاستفادة من حربه وهجماته ضد الولايات المتحدة، لكن لا ينال التنظيم كل ما يطلب من الطرف الإيراني ولا يرتفع سقف تحركاته وأنشطته بالداخل الإيراني عن الحدود التي وضعها المسؤولون في طهران، وهو ما كشفته المراسلات بين حمزة بن لادن وأبيه، والمستوى المسموح به عمليًا لنشاط قادة القاعدة الذين تستضيفهم إيران.