أخبار البلد - شنّ تنظيم داعش الإرهابي هجمات متوالية في العمق الإسرائيلي ليقدم من خلالها نفسه ككيان يعوض قصور حركات المقاومة الإسلامية في مواجهة إسرائيل، لكنه في الواقع يبحث عن أي فرصة للتغطية على أزماته الحالية وعجزه عن إعادة التموقع كدولة خلافة إسلامية وتسويق نفسه على مختلف الجبهات، مستغلا تهاون الحركات الإسلامية الفلسطينية وتراجع عدد من الدول وفي مقدمتها تركيا عن تصريحاتها العدائية تجاه تل أبيب.
يمكن تفسير الهجمات الأخيرة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد أهداف إسرائيلية برغبة التنظيم في الثأر من تل أبيب لدورها في مقتل خليفته السابق عبدالله قرداش، لكن هذا التفسير يغفل أن تلك العمليات والتي قد تزيد وتيرتها، حيث اعترف التنظيم بمسؤوليته عن بعضها، أكبر من مجرد انتقام عابر، ومع ردود الفعل الإسرائيلية المحذرة منها سيدخل الملف منحنى خطرا يخالف تصورات سابقة سادت بشأن ابتعاد داعش عن استهداف إسرائيل.
وشهدت إسرائيل ثلاث هجمات أسفرت عن مقتل 11 شخصًا تبنى داعش رسميًا اثنين منها، حيث أعلن مسؤوليته عن إطلاق النار في حيفا بمدينة الخضيرة وأسفر عن مقتل جنديين وإصابة 10 آخرين، وقبلها بأيام نفذ فلسطيني من عرب النقب يرتبط بداعش عملية طعن ودهس قتل فيها أربعة مدنيين إسرائيليين، وعقب هجوم الخضيرة دهمت الشرطة منزل أحد المنفذين وعثرت على مواد تتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية.
واعتقلت الشرطة الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية 50 مواطنا عربيا بشبهة دعم تنظيم داعش وتمت إحالتهم إلى جهاز الأمن العام "الشاباك”، للتحقيق معهم.
وترجع تلك الهجمات إلى رغبة زعيم التنظيم الجديد أبوالحسن الهاشمي الذي جرى الإعلان عن توليه المهمة بعد قرابة شهر من تصفية سلفه في أن يبعث برسالة إلى إسرائيل تفيد بأن هناك ثمنًا عليها أن تدفعه جراء تعاونها مع الأجهزة الأميركية ضد تنظيمه، بعد أن أسهم دور الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بقوة في نجاح عملية قتل خليفة داعش السابق أبوإبراهيم الهاشمي القرشي في إدلب شمال غرب سوريا.
وكانت وسائل إعلام إسرائيلية كشفت معلومات عن تقديم تل أبيب لواشنطن بيانات استخباراتية عن مكان تواجد القرشي الذي كان يشرف على الملف الإسرائيلي قبل توليه زعامة التنظيم نهاية أكتوبر 2019 وأسهمت معلومات حصل عليها الأميركيون من إسرائيل في تنفيذ مهمة قتله بنجاح.
وسبق أن أعلن قائد الأركان الإسرائيلي السابق غادي إيزنكوت في حوار مع صحيفة معاريف بشأن ما أنجزه الجيش من مهام "القضاء على المئات من عناصر داعش في مختلف أنحاء الشرق الأوسط”.
وثأر داعش لمقتل زعيمه السابق وحرص خليفته الجديد على ألا يتم استهدافه سريعًا كسابقه والانتقام من إسرائيل لدورها الأمني في قتل المئات من ناشطي التنظيم يبدو القشرة التي تخفي دوافع أصيلة متعلقة بطبيعة المرحلة التي يمر بها التنظيم وأدوار الكيانات الأخرى السلبية التي أسهمت بشكل غير مباشر في انخراط داعش في هجمات ضد أهداف إسرائيلية.
هوية جديدة
الرسالة التي تحملها عمليتا تنظيم داعش داخل إسرائيل في هذا التوقيت هي أن قادته أولى بالولاء والمبايعة من قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي الذين غادر غالبيتهم فلسطين وأصبحوا أثرياء ويستثمرون في منتجعات بماليزيا وتركيا، في حين يدعون وهم خارج الميدان شباب قطاع غزة الذي يعاني الفقر والبطالة إلى الصبر والوقوف بحزم ضد الاحتلال.
ويحاول داعش الترويج لنفسه بطريقة جديدة ليست تحت الشعارات القديمة التي لم تعد مناسبة الآن كونه "دولة خلافة” يحج إليها كل من يحلم بالعيش في فضاء يستعيد مظاهر وأشكال الدولة الإسلامية في عصورها الأولى.
ويرفع التنظيم خلال المرحلة الحالية شعارات جديدة عبر تقديم نفسه في فلسطين ككيان يعوّض ما يعتبره تنازلات وتخاذل حركات المقاومة الإسلامية في مواجهة إسرائيل، أو في أفغانستان عبر فرعه هناك ولاية خراسان ككيان يتمسك بالثوابت ومواجهة الغرب مُصححًا اعوجاج طالبان التي حادت عن الطريق وعقدت صفقات ومعاهدات صلح مع الأميركيين.
ويحتاج داعش إلى تفعيل هذا التصور في هذه المرحلة لتجاوز أزماته الآنية بعد مقتل خليفته السابق أبوإبراهيم الهاشمي القرشي مطلع فبراير الماضي، ومعاناته بشأن الافتقار للكيفية التي يعيد بها تسويق نفسه، حيث لا يملك الأوراق الكاملة لإعادة تسمية نفسه كدولة خلافة في ظل عدم سيطرته على أرض وسلطة واضطراره لبقاء قائده مختفيًا بدواعي الحفاظ على حياته بينما تحتاج المبايعة وفق قناعات الجهاديين لخروج الخليفة للعلن.
وبات أمل إعادة تأسيس دولة خلافة كالتي أعلنها في الموصل أبوبكر البغدادي في صيف 2014 بعيد المنال، بعد أن فقد داعش بنيته الهيكلية التي كانت تتشكل من هيئة شرعية وأهل الحل والعقد ومجلس شورى ومجلس عسكري وبيت المال والمجلس الأمني، إلى جانب فقدانه غالبية قادته المؤسسين، في حين يتسبب التباين حول تنصيب الخليفة وطريقة مبايعته في انقسامات وصراعات داخلية.
وفي محاولة لضمان استمراريته وتجنب الانقسامات المحتملة يعيد داعش تعريف نفسه ليس وفق الصورة التي ظهر فيها للعلن أول مرة في العراق وسوريا كدولة خلافة مزعومة إنما ككيان عسكري ينشط في بؤر الصراع في العالم الإسلامي مدافعًا عمّا يسميه قضايا الأمة، ومُسّوقًا نفسه كبديل في فلسطين وأفغانستان عن حركات راديكالية يصفها بالمتخاذلة والخائنة.
ويحفز داعش للقيام بهذا الدور عداؤه الشديد لحركة حماس التي وصفها في بعض إصداراته بـ”الكافرة والمرتدة” ويتهمها بـ”معاداة الإسلام وتؤمن بالديمقراطية وتحتكم للتشريعات الدولية والمحلية وتوالي الطواغيت كنظام إيران وتنسق مع الجيش المصري في الحرب على تنظيم الدولة في سيناء”.
الدور الغامض لحماس
استفاد داعش من حرص حركة حماس لأسباب عديدة على عدم التورط في تنفيذ عمليات ضد إسرائيل، ما يعني الدخول في مغامرة جديدة وربما إشعال حرب خامسة يدفع ثمنها الفلسطينيون المُحاصرون في غزة.
ووجد التنظيم في تحولات حماس ودورها الغامض فرصة لإعادة إنتاج نفسه من بوابة التصدي لمهمة المقاومة المسلحة لإسرائيل، فيمَ تتأهب حماس بناءً على سلسلة إشارات من الجانب الأوروبي لقبولها كجزء من سيناريو للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط والحصول على اعتراف غربي من منطلق تكريس هدنة طويلة الأمد مع تل أبيب.
وتريد الحركة الفلسطينية عبر كبح جناحها المسلح وعدم التورط في تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية كسب القوى الغربية التي تضع عليها آمالًا في سياق إعادة التعريف بنفسها باعتبارها حركة سياسية معتدلة بهدف بسط سلطتها على قطاع غزة والضفة الغربية بالنظر إلى طموحها في طرح نفسها كبديل عن حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وأدى نقل العديد من قادة حماس والجهاد الإسلامي مقر إقامتهم إلى خارج الأراضي المحتلة دورًا كبيرًا في تثبيت وضع الحركات الفلسطينية المحلية بعيدًا عن التورط في مغامرات عنيفة ضد أهداف إسرائيلية، وتسبب في تسرب عناصر إسلامية ساخطة على ما اعتبروه تهاونًا وتخليًا عن ثوابت القضية إلى كيانات راديكالية أكثر تشددًا وفي مقدمتها داعش.
وفضلت حماس ترك الأمر لأن تُنفَذ عمليات داخل الأرض المحتلة بيد آخرين ولا تنسب إليها كي لا تتدهور شعبيتها في غزة أكثر من ذلك، خاصة أن عمليات داعش لن تقود إلى مردود إيجابي على القضية الفلسطينية أو تغير واقع المواطنين المحاصرين في غزة، حيث أدت المناوشات السابقة لإطلاق يد إسرائيل لتحول القطاع إلى حقل رماية لصواريخها.
بديل أيديولوجي
استغل تنظيم داعش استدارة دول كانت تقدم نفسها في السابق كمناوئة لإسرائيل وجبهة رفض ومقاومة ضد المشروع الإسرائيلي مثل تركيا التي أنهت خصومتها واستقبل رئيسها رجب طيب أردوغان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ مؤخرا استقبالًا تاريخيًا، ما ناقض السمعة السابقة التي اكتسبها الرئيس التركي كزعيم إسلامي يصرح بما لا يصرح به الحكام العرب ضد إسرائيل وقادتها.
ووجد داعش الفرصة سانحة ليملأ الفراغ بالساحة التي ظلت تشهد لسنوات تصريحات ومواقف حادة من قبل حركات قدمت نفسها كجبهات مقاومة إسلامية ضد إسرائيل بعد أن باتت في وارد تعديل وضبط خطابها وممارساتها، والتخلي عن صمتها في الاشتباك مع إسرائيل.
ويعمل التنظيم على استعادة بريقه وتلميع سمعته في الأوساط الشعبية الإسلامية وإدارة ماكينة التجنيد بالتنظيم من خلال إطلاق دعاية مفادها أنه الجهة التي لا تزال تحمل راية الجهاد ويمكنها أن تتصدى لإسرائيل.
ويريد داعش أن يتبنى سردية جديدة مفادها أن عناصره ثبتوا وضحوا في مواجهة إسرائيل في حين باع آخرون وتخاذلوا ممن زعموا أنهم يحملون قضايا الأمة الإسلامية، وهو تكتيك دعائي استخدمه التنظيم مرارًا لمقارنة حاله متمسكًا بثوابت العقيدة مقابل تقاعس القاعدة وطالبان وحماس.
ويريد أيضا أن يطرح نفسه كبديل أيديولوجي مسلح تُسنَد إليه مسؤولية الهجمات ضد أهداف في العمق الإسرائيلي بعد أن كان ذلك حكرا على حركات فلسطينية محلية، ويسعى لتسمية نفسه كجهة بديلة يلتحق بها الساخطون على حماس ومواقفها وخيارات قادتها.
داعش يعيد تعريف نفسه ككيان عسكري ينشط في بؤر الصراع في العالم الإسلامي مدافعًا عمّا يسميه قضايا الأمة
وقد تكرر انضمام عناصر من حماس لتنظيم داعش، وهو ما أكدته تطورات الأحداث على الأرض مع الكشف عن هوية غالبية من قتلوا أو وقعوا في قبضة الأجهزة الأمنية، وتبين أن الشخص الذي قُتل في أثناء مواجهات مسلحة مع قوات الجيش المصري في سيناء كان يقاتل في صفوف تنظيم ولاية سيناء، وهو مصعب مطاوع نجل شقيقة يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحماس وابن الطبيب جميل مطاوع مسؤول الزكاة والتبرعات بالحركة.
واستمر مصعب مطاوع كناشط في وحدة الكوماندوز البحري لكتائب القسام الجناح المسلح لحماس وأشرف وقتها على دورات خاصة قبل أن ينضم لداعش ويتسلل إلى سيناء في مارس 2020 برفقة عدد من الناشطين المحسوبين فكريًا على داعش وبعض الناشطين بكتائب القسام باختراق الجدار الأمني الجديد على الحدود المشتركة مع مصر.
وفي العام 2018 نفذ عنصر حمساوي سابق بعد أن انضم لفرع داعش في سيناء، وهو محمد الدجني ابن القيادي البارز بحماس أبوراشد الدجني، الإعدام في عضو التنظيم موسى أبوزماط رميًا بالرصاص بتهمة التعاون مع كتائب عزالدين القسام ووثقه في إصدار مرئي عنوانه "ملة إبراهيم”.