لَو لَم تكن روسيا، وأوروبا، وأميركا، هُم الأطراف الفعليّة الحرب الدائرة في أوكرانيا، لَما امتدّ تأثيرها إلى باقي أنحاء العالَم؛ بدليل أنّ حروباً كثيرة، في إقليمنا العربيّ، منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولَم يشعر بها العالَم، على نحو ما نراه اليوم.
وهنا، يتحسّس كثيرون مفاصل نظام الأمن العالَمي، الذي صنعته تجربتا الحربين العُظميين، الأولى والثانية، في «عصبة الأمم» و«هيئة الأمم». فالانتهاك المتواصل، خلال الحرب الباردة، للمبادئ الإنسانية، وللحقوق، وللسلم العالمي، التي أرسَتْها مرارةُ وفداحة الحرب الثانية، أوصَلَت فكرة «مجلس الأمن»، وميزة «الفيتو» لأعضائه الدائمين، إلى منتهاها، كضامن لعدم تكرار حرب عالمية أخرى. فصَارَ للنظام الدولي معاني أخرى، غير ما كان يعنيه سابقاً.
بالعَولَمة، وبأشياء أخرى، وخلال الحرب الباردة، وفي «إقليمنا الشرق أوسَطيّ..!»، صُنعت أوهامٌ كثيرة. أوهامٌ صَنعتها فكرة توافر المواد الأوليّة، والرَيع، وإمكانية التطوّر والتقدّم بشراء التكنولوجيا، وليس بصناعة قاعدتها الثقيلة محليّة، ناهيك عن أوهام بناء أشكال الاقتصاد الأخرى.
ذات يوم، أراد شاه إيران أن يخلق من الاقتصاد الإيراني اقتصاداً على نفس الدرجة من التطوّر للاقتصاد الاميركي والأوروبي والياباني. واعتقد، واهماً، أنه بامتلاك بلاده للمعدّات والمصانع، التي تمتلكها تلك الدول، ستصبح إيران بلداً متطوراً، عبر شرائها للتكنولوجيا المتطوّرة. وللحصول على هذه التكنولوجيا، اعتمد على نصائح قدمها له أناسٌ عُرفوا بـ«مستشارو الماساشوسيتس»، كما إطلق عليهم عالم اجتماع إيراني. والمقصود بالتسمية، الفئة المثقّفة تكنولوجياً، والخبيرة في الحقول الفنية والصناعية والاقتصادية، حيث تخرّج هؤلاء وتدربوا?في معهد «ماساشوسيتس» للتكنولوجيا في أميركا.
وفي العام 1975، أبرمت الحكومة الإيرانية عقدَ استيراد مصنع حديث، لإنتاج الطائرات في مدينة أصفهان، مع شركة «تكسترون» الأميركية. وهو عقد بعشرات المليارات من الدولارات، شارك فيه، عبر شركة «تكسترون» عددٌ كبير من الشركات الأميركية، في النقل والتصنيع والتصميم والنقل البحري وغيرها. وقد شملت هذه الحركة الاقتصادية عدداً كبيراً من الولايات الأميركيّة، كنيويورك ولويزيانا وتكساس وكارولينا الشمالية وفيلادلفيا. وبعد ثلاثة أعوام، كان ثلث المصنع قد تم إنجازه، حين اندلعت المظاهرات العارمة في أصفهان ضدّ الشاه، فتوقّف العمل، ?م عاد ثانية بعد انتهاء المظاهرات.
كان المشروع، حتى ذلك الحين، قد أنهكَ الموارد البترولية للحكومة الإيرانية، فعمدت إلى الاقتراض، لتوفير النقد الأجنبي، على حساب عائدات النفط المستقبلية. ولتغطية النفقات محلياً، قامت بطبع الأوراق المالية، من دون تغطية قانونية، فغرقت البلاد في حالة من التضخّم وارتفاعٍ للأسعار بشكل جنوني. وهو ما أدّى، في النهاية، إلى انهيار التجارة الإيرانية انهياراً تاماً، وعجزت الحكومة الإيرانية عن الدفع، فتوقّفت شركة «تكسترون» عن العمل، وتفشّت بطالةٌ عماليةٌ شديدةٌ، في عدد كبير من الولايات الأميركيّة المشاركة في المشروع، وبعد?شهرين من توقّف المشروع، وقبل تنحية الشاه، بفترة وجيزة وخروجه خارج البلاد، ألغت الحكومة الإيرانية رسمياً عقود شركة «تكسترون».
في تلك الفترة، نشرت إحدى الصحف الاميركية تحقيقاً لمراسلها، مع أحد قادة المظاهرات في إيران، شَرحَ فيه حالة التضخّم وارتفاع الأسعار، وعدم جدوى الاستثمار الحكومي في مشروع مصنع أصفهان. اللافت في ذلك التحقيق، هو تعليقُ أحد الحاضرين، حين حاول تقديم تفاحة للصحافي الأميركي. فعندما حاول تقشير التفاحة للصحافي، انفصلَ نصلُ السكّين عن مقبضها، فأمسك الرجلُ بالسكّين المكسورة، وقال بشيء من التقزز الظاهر: «هنا تبدو الصورة متكاملة أمامك، فكما ترى إن بلدنا إيران يملك 25% من مصانع (كروب) في ألمانيا، لكننا في إيران لا نستطيع ?ن نصنع سكّيناً جيّدة نقشّر بها تفاحة».
تداعيتُ الحربُ في أوكرانيا تدقّ الناقوس لكلّ الاقتصادات والمجتمعات والدول، وخصوصاً في منطقتنا. لا نتمنى لأحد في بلادنا العربية مصيراً مأسوياً كهذا. فالفشل قد يكون أهمّ عناصر الإصلاح، إذا ما أصَخنَا السمعَ جيّداً، لما يكشفُ عنه الفشلُ من حقائق، وأوّل الإصغاء الحقيقي هو سماعُ الصوتِ الصاخبِ والمكتوم، لأنينِ الناس وصُراخهم وجوعهم وآلامهم، نتيجةً لما آلَتْ إليه الأمور، في واقع وتفاصيل عيشهم وحياتهم اليومية، في شتى مناحيها.