اخبار البلد - يشبه طرح السؤال الخاص بموقع إيران على الخارطة السياسية في مصر المشي داخل حقل ألغام، لأن الكثير من الدوائر الرسمية تتجنب الإجابة عليه وتأتي دوما في ثنايا بيانات جماعية من خلال جامعة الدول العربية أو مواقف فردية تأخذ شكلا لا تأتي فيه القاهرة غالبا على ذكر طهران مباشرة.
عندما تتحدث مصر وتؤكد عن دفاعها عن أمن الخليج لا تتحدث عن الجهة التي تهدده، وهي إيران، وإذا تمت الإشارة إلى التنديد بالهجمات التي تتعرض لها السعودية والإمارات على أيدي الحوثيين في اليمن تميل القاهرة إلى خطاب يتبنى عدم تحديد من يقف خلفهم ويدعمهم بالأسلحة، وهي أيضا إيران.
ويفرّغ هذا التوجه الكثير من أطر التعاون بين دول الخليج ومصر من المضامين الأمنية والسياسية، فالأولى تطلب ما هو أكثر من الشجب والتنديد ولهجة "مسافة السكة” الشهيرة، وتريد تصرفات واضحة وعملية في المعركة التي تخوضها في مواجهة طهران وذيولها، وهو ما لم تقم به القاهرة في معظم الأحيان، ويجعل موقفها حرجا مع حلفائها في الخليج مع تصاعد حدة المواجهة مع إيران والتوقيع على الاتفاق النووي معها بصورة قد تطلق يديها في المنطقة بما هو أكثر من الحاصل حاليا.
ويحتفظ الموقف الخليجي برؤية خفية تشي بأن مصر لن تضع إيران في خندق العداء، ومهما تلقت القاهرة من مساعدات اقتصادية أو تعرضت إلى ضغوط سياسية لن تقدم على هذه الخطوة لاعتبارات استراتيجية، ما يقلل من أهمية التصورات الخاصة بحشد إقليمي يتصدى لإيران تكون إسرائيل جزءا فيه وتصبح مصر من بين مكوناته، لأن الأخيرة إذا خسرت طهران تعتقد أنها لن تتبقّى لها أوراق مؤثرة بشكل كبير في المنطقة.
الموقف الخليجي يحتفظ برؤية خفية تشي بأن مصر لن تضع إيران في خندق العداء، ومهما تلقت القاهرة من مساعدات اقتصادية أو تعرضت إلى ضغوط سياسية لن تقدم على هذه الخطوة لاعتبارات استراتيجية
وتبدو حسابات مصر حيال إيران مغلفة بكثير من الدبلوماسية، فمنذ انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية وما قدمته من مساعدات عسكرية لبغداد في معركة الفاو الرئيسية، لم تشهد العلاقة مع طهران صداما حادا، وكل الصدامات التي حدثت سياسية وتكتيكية بما فيها الخلاف الذي يطفو ويخبو حول تسمية شارع بطهران باسم خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس أنور السادات أو وجود ضريح رضا بهلوي شاه إيران في القاهرة.
كما أن الخلافات حول إيواء إيران للعديد من عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي ومن بينهم قادة مصريون لم يأخذ منحى عدائيا لوقت طويل، وما يحدث من تباين في كثير من المواقف السياسية لا يرقى إلى مستوى استراتيجي مخيف، ففي جميع تدخلات إيران السافرة في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها لم تغامر مصر بأن تحول ذلك إلى مطية لقطيعة واضحة أو صدام طويل.
ويرفض الخطاب المصري انتهاكات إيران في جميع الدول العربية، لكن هذا الرفض لم يرق إلى مستوى المجابهة، كأن هناك ممانعة تحول دون الوصول إلى هذا المربع، فبعيدا عن رغبة النظام في حل الأزمات بالطرق التفاوضية والميل إلى عدم الاستعداد للصدام مع أي من القوى الإقليمية، هناك جملة من المواقف لا تريد القاهرة تحويلها إلى عداوة مفتوحة، سواء مع إيران أو تركيا أو إثيوبيا أو إسرائيل.
ويدلل استمرار قنوات الحوار الخلفية على حرص كل جانب على بقاء العلاقات مع الآخر عند السقف المنخفض حاليا، والذي لا يسمح بتطويرها أو توتيرها، وعلى الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلا أن هناك بعثتين لرعاية المصالح، إحداهما في طهران والأخرى في القاهرة، تتكفلان بالحفاظ على مستوى هادئ بينهما.
سألتُ إعلاميا كبيرا التقى مسؤولا مهما في الدولة المصرية عما سمعه منه وما هو غير مسموح بنشره أمام الرأي العام، فقال بالنص "نريد عودة العلاقات مع إيران، لكن لأننا لا نريد خسارة أصدقائنا في الخليج لذلك لن نقدم على هذه الخطوة”.
وربما تكون الأجواء تغيرت الآن، حيث قيلت العبارة السابقة منذ حوالي ستة أعوام، لكن معناها لا يزال يتردد في بعض الأروقة المصرية الرسمية التي تمنح أولوية كبيرة للعلاقة مع دول الخليج على حساب إيران.
لكن هناك اتجاها داخل نخبة مصرية سياسية وثقافية وإعلامية يولي أهمية لعودة العلاقات مع إيران من دون الإضرار بمصالح الحلفاء في الخليج، ويستند هؤلاء إلى ارتفاع مستوى التبادل التجاري بين بعض هذه الدول وطهران والحوارات التي تجرى من وقت إلى آخر بينهما والرغبة في تطبيع العلاقات معها إذا وفرت ضمانات لأمنهم.
ويسود انطباع شعبي إيجابي في مصر حيال الشعب الإيراني بحكم الروابط المشتركة نحو محبة آل بيت النبي محمد (ص) لا دخل فيه للحسابات السياسية، وقد تكون هذه الرابطة الروحية من بين أسباب فرملة التطبيع بين مصر وإيران، وليس العكس، خوفا من قيام طهران بتسييسها واتخاذها مدخلا لاختراق المجتمع المصري، ما يجعل العلاقة تحافظ على فتورها بشكل يعصمها من القطيعة أو العودة الكاملة.
وما يتردد همسا حول سؤال الممنوع والمرغوب أصبح يتردد علنا، فإذا كانت مصر نجحت في الحفاظ على "شعرة معاوية” في إدارة علاقتها مع إيران، فمن الآن فصاعدا هذه الشعرة باتت معرضة أكثر من أي وقت مضى للقطيعة لأن التطورات الإقليمية التي تمر بها المنطقة ستلقي بظلال عليها، فوسط ترتيبات يجري إعدادها صار السؤال المحوري هل أصبحت العلاقة الضمنية بين القاهرة وطهران في مفترق طرق؟
مصر ترفض انتهاكات إيران في الدول العربية، لكن ذلك لم يرق إلى المجابهة كأن هناك ممانعة تحول دون الوصول إلى هذا المربع
مصر ترفض انتهاكات إيران في الدول العربية، لكن ذلك لم يرق إلى المجابهة كأن هناك ممانعة تحول دون الوصول إلى هذا المربع
اعتادت مصر ألا تفرط في ما تملكه من أوراق في الأوضاع العادية فما بالنا إذا كانت خارطة العالم تتعرض إلى هزات كبيرة، صعودا أو هبوطا، ولا أحد يعلم إلى أين سوف تقودها رياح الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على المنطقة، وهو ما يعزز الاتجاه نحو عدم التفريط في إيران التي تحرص مصر على التمسك بها.
ويقود هذا الاستنتاج، بالطبع في حالة التأكد من حدوثه، إلى أن المعنى الذي حملته القمة الثلاثية بين مصر والإمارات وإسرائيل في مدينة شرم الشيخ الأسبوع الماضي في شقه الخاص بالنيل من القوة الإيرانية مشكوك فيه، لأن العقيدة المصرية حول الصورة الإقليمية يصعب أن تستبدل العدو الحالي (إسرائيل) بآخر محتمل (إيران).
ويمكن أن تحافظ القاهرة على ثنائية السلام والتطبيع مع إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية كجزء من الأمن القومي المصري وتسخير الهدف الأول لخدمة الثاني، لكنها من الصعوبة أن تحافظ على ثنائية التهدئة مع إيران والدخول في حلف يستهدفها، الأمر الذي يفضي إلى انفراط عقد الحلقات التي تدير بها مصر علاقاتها مع إيران.
وتفرض العواصف الأمنية والسياسية التي تموج بها المنطقة على مصر رسم خياراتها الإقليمية بدقة، لأن أية مواجهة سوف تحدث مع إيران إن عاجلا أو آجلا من الضروري أن يكون موقف القاهرة فيها أكثر تحديدا، وتأتي الصعوبة البالغة من عدم القدرة على تحمل مخاطرة استراتيجية من نوعية الدخول في تحالف إقليمي مع إسرائيل، أو الميل إلى تأييد ضمني لتحالف مع إيران.
وقد تفهم التحركات الجارية بشأن تطبيع العلاقات مع سوريا على أنها رسالة تعني قصقصة أجنحة إيران في المنطقة، ما يشير إلى إمكانية اختيار القاهرة الانحياز إلى التحالف الأول، والذي سيكون مصحوبا بمزايا تخفف من أزماتها الاقتصادية المتراكمة، ويمنح القيادة السياسية مساحة لمواجهة تحديات داخلية وخارجية عميقة.