جاءت هذه الأزمة العصيبة في الوقت الذي اقترب فيه العالم من الخروج من تبعات جائحة كورونا الصحية العالمية التي أثرت سلبا على الاقتصاد العالمي نتيجة الاغلاقات الكبرى وتوقف عمليات الانتاج وتقطع سلاسل التوريد. وقد عادت الازمة الروسية الاوكرانية لتذكرنا بحجم الترابط والتشابك والتعقيد في الاقتصاد العالمي لتربك المشهد الاقتصادي العالمي من جديد بأسواقه الرئيسية. كما وتذكرنا الازمة بأن الامن العالمي مترابط وخاصة ذلك المتعلق بالامن الغذائي وأمن الطاقة والامن الانساني، وأن أنواع الاسلحة المستخدمة في الحروب تتجاوز الاسلحة العسكرية التقليدية، لتصل الى سلاح العقوبات الاقتصادية.
وعلى الرغم من أنه من المبكر تقييم تداعيات الأزمة على العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، حيث ان الاوضاع سريعة التطور والتغير على الارض، الا انه يمكننا قراءة الاثار الفورية التي بدأت تظهر على بعض المؤشرات الاقتصادية العالمية، وعلى مختلف الاسواق، ومحاولة استقراء مستقبل تلك المتغيرات بعد تحليل حجم الترابط ما بين اقتصادات الدولتين ودول العالم الاخرى وخاصة منطقتنا العربية.
فعلى صعيد أسواق النفط والغاز، فقد تخطّت أسعار النفط عتبة الـ 100 دولار للبرميل، وللمرة الأولى منذ سنوات، ولحقتها أسعار الغاز بالارتفاع في أوروبا بنسبة 35% خلال ساعات التداول الأولى بعد اندلاع الازمة ليتجاوز سعر العقود الآجلة للغاز مستوى 1400 دولار لكل 1000 متر مكعب. ان تأثير ارتفاع أسعار النفط والغاز سيكون بالايجاب على الايردات المالية النفطية للدول العربية المنتجة والمصدرة لهذين المنتجين. أما الدول المستوردة للنفط، فسيكون التأثير سلبيا وعلى شكل ارتفاع فاتورة النفط واستنزاف الاحتياطيات الاجنبية وارتفاع معدلات التضخم وكلف الانتاج وزيادة اعباء الدعم الحكومي للفئات الفقيرة.
كما أن ارتفاع معدلات التضخم من شأنه زيادة حدة المعضلة التي تواجهها البنوك المركزية على مستوى العالم. ففي حين أن ارتفاع معدلات التضخم تدفع البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة، فان التباطؤ الاقتصادي المتوقع أن تحدثه الازمة سيضغط باتجاه ابقاء أسعار الفائدة منخفضة لتشجيع النمو الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، ما يطرح حالياً هو إمكانية أن تحل بعض الدول العربية المنتجة للنفط والغاز، مثل السعودية وقطر والجزائر، مكان روسيا لتعويض الاسواق الأوروبية النقص المحتمل لتوقف تزويد روسيا بالنفط والغاز وخاصة في حال شمول العقوبات النفط والغاز مستقبلا. وهذا الاحتمال ليس بالامر السهل في المدى القصير على الاقل لانه يحتاج الى ترتيبات كبيرة على صعيد العقود وسلاسل التوريد والصعيد اللوجستي في الدول المستوردة.
وعلى صعيد أسواق الاسهم، فقد تراجعت أسعار الأسهم العالمية والعقود الآجلة للأسهم بشكل وبدرجات متفاوتة بعد جلسات الافتتاح التي تبعت دخول القوات الروسية الاراضي الاوكرانية، لكنها ما لبثت أن صححت نفسها يوم أول أمس الجمعة. ومن الطبيعي أن تكون التوترات أقل حدة في أسواق المال الدولية، فروسيا وأوكرانيا ليستا من اللاعبين الرئيسين في تلك الأسواق.
بالمقابل، قفز سعر الذهب الفوري ليصل لأعلى مستوى له منذ أواخر العام 2020، وذلك نتيجة تدفق المستثمرين على أصول الملاذ الآمن في ظل غرق أسواق الأسهم عالميًا في المنطقة الحمراء.
وفيما يتعلق بأسواق العملات، فقد تفاعلت مع التطورات الميدانية، إذ شهد الروبل الروسي أكبر خسائر له لأول مرة منذ عام 2016، ووصل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار الأميركي واليورو.
وعلى صعيد الأمن الغذائي، تعتمد نحو 14 دولة عربية على الواردات الأوكرانية والروسية في أكثر من 10% من استهلاكها من القمح، ما يضعها أمام أزمة انعدام أمن غذائي محتملة في حال تم عرقلة حرية حركة النقل، ويشكل هذا الواقع مصدر قلق لتلك الدول. فعلى سبيل المثال، تستورد مصر 60% من حاجتها من القمح من روسيا و30% من أوكرانيا، في حين تستورد الجزائر 25% من حاجتها من القمح من روسيا، أما المغرب فتستورد 26% من حاجتها من القمح من اوكرانيا. وإن سلمت الموانئ الأوكرانية من الاستهداف فإن وتيرة الإنتاج ستنخفض ولا سيما إذا طال أمد الحرب.
وفيما يتعلق بالعقوبات، فسيظهر تأثيرها بشكل جلي في حالة شمول العقوبات الاقتصادية قطاع الطاقة (النفط والغاز)، عندها قد ينظر الأوروبيون وحليفهم الأميركي للدول العربية المنتجة للغاز والنفط، كقطر والسعودية والجزائر، بوصفها مصدرا يمكن أن يعوض بعض النقص في إمدادات الغاز والنفط إلى أوروبا، ومصدرا لمنع الارتفاع الشديد في أسعار النفط العالمية عبر زيادة إنتاجهم من النفط.
ولا نعلم حجم الاستثمارات العربية بالاوراق المالية والسندات الروسية والتي قد تتأثر بالعقوبات المفروضة على تلك الاوراق والارباح المتأتية منها وخاصة اذا ما تم قطع وصول روسيا لخدمة سويفت.
أما الاثار على برامج المساعدات للاجئين في الدول العربية، فان تأثير تدفق اللاجئين من منطقة الحرب إلى دول الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تشكل ضغوطا على برنامج المساعدات العالمي للاجئين الذي يستفيد منه لاجئو دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ندعو الله أن يحل السلام ويرجح صوت السلم في العالم أجمع.