كل واحد منا يعرف بالحدس أن الثقة ضرورية في جميع أشكال التفاعل، ولأن الثقة مفهوم مألوف فإنه قلما ينتبه الناس إلى أهميته القصوى، ومن ثم لا يتم تقديرها بما تستحق، مع أن من نقبله أو نرفضه يعتمد على الثقة. غير أنه كلما اشتدت الأخطار والمخاطر والتحديات في الدولة وتعقدت برز دور الثقة في مواجهتها والتغلب عليها، وعندما تغيب يحل محلها عدم الثقة، فالتداعيات السلبية.
وعليه تعبر المعارضات والنزاعات والصراعات والحراكات… في الدولة/ المجتمع عن أزمة ثقة فيه. وكما يبدو لا تدرك الحكومات العربية أثر غياب الثقة وتداعياته السلبية المتدحرجة.
وبما أنه لا يمكن منع الناس من مراقبة أداء الحكومات ومتابعة السياسة، أو من النقد والاحتجاج، فإن الحكومة بحاجة إلى الانتباه الشديد إلى موضوع الثقة، وإلى حاجتها إلى التواصل معهم القائم على الشفافية والصدق. إن التواصل معهم سهل لسبب إذا كانت الثقة موجودة، وصعب للغاية إذا كانت الثقة ضعيفة أو منعدمة.
يغيب عن الذهن ان الثقة هشة، وأنها تُبنى ببطء، غير أنها سرعان ما تُفقد بغلطة، أو بنازلة، أو بمصيبة، وأنها عندما تُفقد تحتاج إلى وقت طويل لتُسترجع، وأنه – في بعض الحالات – لا يمكن استرجاعها .
لقد جذب موضوع الثقة انتباه العلماء والباحثين وبخاصة موضوع صعوبة اكتسابها، وسهولة وسرعة فقدانها، وبعكس الصفات السلبية كالكذب والغش والفساد… السهلة (الاكتساب) والصعبة الزوال. فإذا اشتهر واحد أنه صادق ومحترم وكذب أو غش أو فسد ولو مرة واحدة فإنه سرعان ما يفقد ثقة الناس به. إن الثقة تحتاج إلى أمثلة كثيرة أو مرات عديدة من الوقائع لتكتسب، وغلطة واحدة… كافية لفقدانها.
وفي السعي لاكتساب الثقة لا يكون الميدان ممهداً، لأن طبوغرافيته تميل نحو عدم الثقة، وللأسباب التالية كما تفيد الدراسات والبحوث:
• لأن الأمثلة السلبية (التي تدمر الثقة) أكثر وضوحاً او قابلية لإدراك الناس من الأمثلة الايجابية اللازمة لبناء الثقـــة. فالأمثلـــــة السلبيـــــة تأخـــذ – غالباً- شكلاً محدوداً: مثل كذبة، أو اكتشاف الأخطاء، أو سوء الإدارة.
أما الأمثلة الإيجابية – ومع أنها أحيانا واضحة إلا انها – عموماً – غائمة أو معجوقة (Fussy )
• وثقل الأمثلة السلبية (المدمرة للثقة) أكبر على النفس من الأمثلة أو الأحداث الإيجابية. وهي نزعة نفسية قوية، فنحن ننتبه إلى السلبي أكثر أو أسرع من الانتباه إلى الإيجابي. ولذلك ينصب اهتمام الناس على الأحداث القليلة الاحتمال ولكن الكبيرة الأبعاد والتداعيات اكثر من انتباههم إلى الأحداث الكبيرة الاحتمال والقليلة التداعيات.
• وبصب النار على مبدأ التناظر أو التقابل (Asymmetry Principle) أي في بطء بناء الثقة وسرعة انهيارها، ندرك خصيصة انسانية نفسية أخرى وتتمثل بميلنا إلى تصديق مصادر الأخبار السيئة (المدمرة للثقة) وضعفه نحو تصديق مصادر الأخبار الصحيحة أو السارة المكسبة للثقة.
• تشويه السمعة الذي يقوم به منافسون وحساد وغيورون… يبدون لمن حولهم محترمين أو موثوقين فيصدقونهم، أو ما تقوم به أجهزة إعلامية أو استخبارية لتشويهها.
• وهناك نزعة سيكولوجية أخرى، أنه بمجرد نشوء عدم الثقة، فإن عدم الثقة يتعزز بطريقتين:
(أ) يدفع عدم الثقة إلى تعطل أنواع الاتصال والخبرات الشخصية اللازمة للتغلب على عدم الثقة، وتجنب الآخرين الذين لا نثق بأفعالهم أو أقوالهم ودوافعهم لأنهم يعتبرونهم غير أكفاء أو غير موثوقين. ومن هنا نفهم خطورة مصطلح أصحاب السوابق عليهم وعلى مستقبلهم بتكراره.
(ب) تلّون الثقة الأولية أو الابتدائية أو عدم الثقة الأولي أو الابتدائي تفسيراتنا للأحداث / الأمثلة وتعزز بالتالي معتقداتنا السابقة او المسبقة.
وبإيجاز يؤكد العلماء والباحثون أن المعارضات والنزاعات والصراعات… المناوئة للسلطة ليست ناجمة عن لا عقلانية الناس أو عن جهلهم، وإنما هي آثار جانبية متوقعة ناجمة عن هذه المعارضات… وعن الَقدْر من الحرية والديمقراطية المتاحة، وتكنولوجيا الاتصال أو التواصل الفورية.
وختاماً، فإنه مثلما يعطى الأفراد وزناً أكبر أو انتباهاً أكبر للسلبية من الأمثلة أو الأحداث فإن الميديا تقوم بالمثل، فمعظم ما تبثه سيء ومدمر للثقة.
أما التغير الثاني فهو الظاهرة الاجتماعية المهمة الجديدة المتمثلة ببروز جماعات الضغط أو الحراك القوية القادرة على توصيل مطالبها ومظالمها واهتماماتها وعدم ثقتها إلى الجمهور أو العامة والتأثير في السياسات والقرارات. أما التغيير الثالث فانعدام الثقة في مجمعنا اليوم ليس عمودياً فقط وإنما أفقيا أيضاً.
وأخيراً لا يستطيع كل الإعلام الضعيف خلق ثقة في فاقدها أو استرجاعها له، فهو يعمل مثل غازات الكربون التي تزيد من الاحتباس الحراري في المجتمع.