لا يفصل لبنان عن ذكرى مرور عام على انفجار مرفأ بيروت سوى أيام معدودات، ورغم الفاجعة والصدمة فإن بيروت لم تنهض وتلملم جراحها، بل سقطت أكثر في أتون أزمة اقتصادية طاحنة أكل الأخضر واليابس، فيما زعماء الطوائف يتناحرون ويتكاسرون دون أن يلتفتوا لأوجاع اللبنانيين الذين بدأ الجوع يهددهم وينهشهم.
عام مضى على انفجار مرفأ بيروت والعدالة معطلة بفضل "الحصانات" الممنوحة للقادة السياسيين والأمنيين، وحكومة حسان ذياب أسقطت ورحلت لامتصاص نقمة وغضب الناس، ورئيس كُلف (سعد الحريري) أمضى ما يزيد عن 9 شهور في صراع ومكاسرة مع رئيس الجمهورية، ميشال عون، ومن خلفهجبران باسيل، القائد الفعلي، وانتهى المطاف باعتذاره عن التشكيل ليظل المشهد ساكنا، ولبنان يذهب إلى جحيم الفوضى والخراب، وزعماء الطوائف يخوضون معاركهم الكلامية على شاشات التلفزيون والسوشال ميديا لا أكثر، ولا يتجرعون مرارة انقطاع الكهرباء مثل عامة الشعب، أو كارثة الحصول على البنزين، أو حتى الدواء الذي شح واختفى.
إلى أين يذهب لبنان الذي لم تجف فيه بعد دماء ضحايا مرفأ بيروت؟، كيف يستطيع أن يخرج من حالة الانهيار السياسي والاقتصادي؟، هل نحن مقبلون على انتفاضة شعبية ضد كل الطبقة السياسية كما حدث في أكتوبر 2019، أم ستجرفهم الطائفية إلى حرب أهلية ذاقوا مرارتها 15 عاما؟
في أزمة تشكيل الحكومة، التي مضى عليها ما يقارب العام، ظهر المجتمع الدولي عاجزا مشلولا عن تحريك زعماء الطوائف عن ثوابتهم وقناعاتهم، فالماكينة الفرنسية بكل قوتها وحضورها عجزت عن حلحلة الموقف، والضغط على رئيس الجمهورية، ميشال عون، للتخلي عن شرط الثلث المعطل في الحكومة، واشتراط تسمية الوزراء المسيحيين.
لم تنفع زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، ولم يجد توبيخ القيادات السياسية وتحميلها مسؤولية الأزمة، وحتى المؤتمرات الدولية التي نظمتها باريس لدعم لبنان لم تزعزع قادة الطوائف عن مواقفهم قيد أنملة، وظلوا متمترسين خلف مصالحهم أولا.
الموقف الأميركي بين إدارتي الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، والإدارة الجديدة، بقيادة جو بايدن، لم يشهد انقلابا وتغييرا جذريا؛ ولهذا فإن أصواتالبنانية تطالب واشنطن أن تعطي لبنان اهتماما أكبر، لأنه ينزلق إلى الفوضى، وهذا بتقديرهم سيجعله يغرق أكثر في الحضن الإيراني.
ديفد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، يرى أن واشنطن وبشكل واضح لا تؤيد انقلابا أو سيطرة عسكرية في لبنان، ويحث فرنسا على اتخاذ عقوبات أكثر جدية ضد الزعماء اللبنانيين لأنهم يخشونها أكثر من أميركا، فيما يؤكد مساعد وزير الخزانة الأميركي السابق مارشال بيلينغسلي أن الدول الكبرى لا تمتلك حلا سحريا للأزمة اللبنانية، وأن مصير لبنان بيد اللبنانيين وليس في الخارج.
ويذهب مساعد وزير الخزانة للدعوة لإنهاء التحالف بين رئيس الجمهورية وحزب الله، ودعم الجيش ليصبح القوة الشرعية الوحيدة.
حين اعتذر سعد الحريري عن تشكيل الحكومة اندلعت احتجاجات ومظاهرات في مدن متفرقة في لبنان، فجرعات الحلول التوافقية ينتهي أثرها ويعود شبح الصراع إلى تسيد المشهد، وهو ما دفع قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون إلى التحذير والتساؤل المعلن "إلى أين نحن ذاهبون، وماذا تنوون أن تفعلوا؟".
الجيش اللبناني في واجهة الأحداث، وعليه رهانات بحماية السلم الأهلي، وعناصره مغلوب على أمرهم مثل الشعب اللبناني، يكتون بنار الأزمة الاقتصادية، ويدفعون ثمنها، ولهذا تسارع القيادة الفرنسية لعقد مؤتمر لدعم الجيش اللبناني، قبل مؤتمر دولي آخر في ذكرى انفجار مرفأ بيروت لدعم لبنان.
قائد الجيش اللبناني يحذر من خطورة الوضع ومن إمكانية الانفجار، ومسبقا يؤكد عدم السماح بالمس بالاستقرار والسلم الأهلي، وتكرار ما حصل عام 1975 (الحرب الأهلية).
الجيش اللبناني في الواجهة، ولكن الحكم بيد حزب الله، فداخل الدولة دولة، تملك ترسانة عسكرية أقوى من الجيش، ويملك اقتصادا موازيا لم تقضِ عليه كل العقوبات والحصار الدولي طوال السنوات الماضية.
موقع "غلوبال ريسك إنسايتس"كما نشر موقع الحرةيرى أن حزب الله يسعى إلى فرض القانون والنظام بنفسه، وأنه قادر على التدخل بقرارات الجيش، هذه الرؤية تتقاطع مع تصور يرى أن تصاعد الأزمة، وانهيار لبنان يقوي إيران، وهذا حكما يعزز نفوذ حزب الله ووكلائه، بل تذهب هذه المقاربة إلى التذكير أن نجاح المسار التفاوضي بين واشنطن وطهران والعودة للاتفاق النووي، يعني بفصيح العبارة أن إيران ستكون قادرة على ضخ الأموال مجددا لحزب الله مثلما كان الوضع السابق، حيث يقدر دعم إيران للحزب بحوالي 700 مليون دولار سنويا.
وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان يعتبر أن الإخفاق في تشكيل حكومة لبنان أمر مروع، والأمم المتحدة تدعو القادة السياسيين إلى التفاهم سريعا على تشكيل حكومة جديدة تستطيع مواجهة التحديات الكبيرة في البلاد، ووحده الشعب اللبناني لا يأبه بتشكيل الحكومة ويستطيع العيش دونها، ويدرك أن اتفاق الطبقة السياسية سيكون على حسابهم، وبالتأكيد ليس لحسابهم، وحين أطلقوا شعارهم برحيل زعماء الطوائف"كلن يعني كلن" بانتفاضتهم المجيدة قبل عامين كانت بوصلتهم مستندة إلى معاناة عقود من الحرمان، وإلى إدراك بأن الحل يكون بهدم المعبد على رؤوس هذه الطبقة السياسية التي عاثت فسادا وإفسادا في البلاد.
ستتكرر الملهاة في لبنان، وسيعود رئيس الجمهورية ميشال للمشاورات النيابية لتكليف رئيس جديد بدلا من الحريري، وسيغرق لبنان أكثر وأكثر في الفوضى، في حين يذهب أكثر من 50 بالمئة من الشعب إلى حافة الفقر، وسيتعمق الانهيار والتحول إلى دولة فاشلة بعد غرق البلاد بالظلام الناتج عن انقطاع الكهرباء، وشح المحروقات.
هل سيكون العالم قادراً على اجتراح الحلول لأزمة لبنان التي تتكرر منذ اتفاق الطائف عام 1990؟
المشكلة في لبنان الآن ليس في غياب السلطة السياسية، فهذا تعودوا عليه، وتعايشوا معه، وأزمتهم الحقيقية في القدرة على الحياة والصمود بعد أن سرقتهم المصارف، وصارت الليرة، العملة الوطنية،ورقة لا قيمة لها، ولا تستر حاجاتهم.
في السنوات الماضية التي أحكم فيها حزب الله قبضته على السلطة بتحالفه مع رئاسة الجمهورية، تعمقت أزمات لبنان، فدول الخليج فرضت عقوبات على لبنان لمحاصرة حزب الله، والسعودية أوقفت مساعداتها، والسياحة تضررت، والاستثمارات الخليجية تراجعت، وكل ذلك تزامن مع الحرب في سوريا ودخول حزب الله لاعبا مساندا للنظام السوري، ويضاف لكل ذلك العقوبات الأميركية لملاحقة حزب الله والتضييق على النظام السوري.
يعترف رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان الشخصية الأكثر جدلية وإشكالية، أن لبنان ينزف أربعة مليارات دولار سنويا بسبب تهريب مواد مدعومة (البنزين والطحين) من الحكومة إلى النظام السوري عبر المعابر غير الشرعية.
حزب الله يرى في كل الأزمة الاقتصادية واختفاء الدولار من السوق مؤامرة خارجية لأخذ البلد إلى الانهيار، وأن رأسه هو المستهدف.
حتى لو استطاع المجتمع الدولي أن يجد حلولا توافقية بين الزعماء السياسيين، فإن الخراب من الصعب إصلاحه بحلول ترقيعية تحفظ مصالح زعماء الطوائف، وتبقيهم في سدة السلطة.
فانتفاضة أكتوبر تلمست سبل الخلاص، وربما ما يحدث في انتخابات النقابات مؤشر على تمرد كامل على السلطة، وشعار "النقابة تنتفض" نموذجا، والاكتساح في نقابة المهندسين دليل على حالة "القرف" من السلطة السياسية الحاكمة.
ربما يبقى الحال كما هو عليه، فالانتخابات البرلمانية تدق الأبواب عام2022، وحتى ذلك التاريخ فإن الأمل معقود على الشارع ليصنع الفرق، فالجوع كافر، والكفر بزعماء الطوائف هو أول طريق الخلاص والتغيير.