تحدثنا في المقال السابق عن ثلاثة أوهام في العمل الفلسطيني، ونتابع اليوم الحديث عن وهمين آخرين.
الوهم الرابع هو إصلاح البيت الفلسطيني دون قيادة انتقالية
فقد أثبتت التجربة، وعلى مدى الستة عشر عاما الماضية على الأقل، أن القيادة الفلسطينية الحالية لمنظمة التحرير وللسلطة الفلسطينيية غير جادة في إصلاح البيت الفلسطيني، ولا في المضي في الانتخابات للمؤسسات التشريعية والتنفيذية إلى نهايتها على أسس ديمقراطية شفافة؛ وأنها طالما لم تضمن استمرار سيطرتها وهيمنتها على المنظمة والسلطة، فإن أي عملية إصلاحية لن تتم، وأن أي إصلاحات معروضة من طرفها، هي مجرد إجراءات ديكورية وشكلية فارغة المضمون ومضيعة للوقت.
هذه القيادة أطلقت على نفسها "رصاصة الرحمة”، عندما قامت بتعطيل مسار الانتخابات الفلسطينية في 29 نيسان/ أبريل 2021؛ وأكدت الشكوك التي كانت قائمة أصلا تجاهها؛ وانسجمت مع سلوكها التاريخي، ومع عقليتها التي تنزع إلى الهيمنة والاستبداد. ومن ثم، فلم تعد القيادة الحالية مؤتمنة على أي عملية إصلاح أو تطوير جادة للبيت الفلسطيني، وفقدت ما تبقى لها من ثقة ومصداقية. وهي ما زالت مُصرّة على أن تمثل "القديم” الأوسلوي وشبكة مصالحه وفساده وفشله، وأن تعيد إنتاج الفشل مرات ومرات.
وأصبح واضحا أنه لا يمكن القيام بالإصلاح من خلال أو تحت إشراف الرموز والقيادات التي تقوم بمحاربته، ولها مصلحة محققّة في إفشاله. كما أصبح واضحا أن تمثيلها لحزب أو فصيل مُعيّن (فتح) قد جعل حساباتها مرتهنة باستمرار سيطرته وهيمنته على المؤسسات الرسمية الفلسطينية؛ وليس بالضرورة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني.
ولذلك، فإذا كنا نتحدث عن إصلاح حقيقي فلسطيني، وعن تداول سلمي للسلطة، وعن الشروط الموضوعية للنجاح في إعادة بناء منظمة التحرير وتطوير مؤسساتها واستيعاب القوى والفصائل والكفاءات الفلسطينية كافة؛ فلا بدّ من قيادة انتقالية تدير هذا المسار. ولا بأس أن تكون هذه القيادة الانتقالية هي الإطار القيادي المؤقت، ولا بأس من توسيعه ليشمل قوى حقيقية صاعدة، ولا بأس أن تنبثق عنه قيادة تنفيذية مُصغرة، المهم أن تتمتع هذه القيادة بالثقة والمصداقية والجدية للمضي بالعملية إلى نهايتها.
وإذا كان هذا الاقتراح يمثل حلا عمليا ومخرجا كريما للقيادة الحالية للمنظمة والسلطة، فإن كاتب هذه السطور يشك في استجابتها لذلك، بانتظار أن تحدث ظروف ذاتية وموضوعية تفرض نفسها فرضا عليها، وتجبرها على النزول عن الشجرة، كاستقالة أبي مازن أو وفاته وتفتت منظومته القيادية، وكتراجع شرعيتها العربية والدولية واندثارها نتيجة أوضاع سياسية مستجدة، ونتيجة حقائق مفروضة على الأرض.
الوهم الخامس هو مصطلح "طرفي الانقسام”
وهو مصطلح مُضلِّل انتشر منذ سيطرة الحكومة التي تقودها حماس على قطاع غزة، وسيطرة حكومة "الطوارئ” التي تقودها فتح على مناطق السلطة في الضفة الغربية، في سنة 2007. ويَستخدم هذا المصطلح عادة أولئك الذين يحاولون تقديم أنفسهم بشكل موضوعي، على أساس أنهم على مسافة واحدة من الطرفين، وعلى أساس تحميل الطرفين مسؤولية الانقسام بالدرجة نفسها تقريبا؛ أي إن السياق الذي يتم استخدامه فيه هو سياق مضلّل وغير موضوعي.
ابتداء، ومن ناحية أولية يظهر أن انقساما فعليا حصل من ناحية جغرافية بسيطرة حماس على قطاع غزة وسيطرة فتح على الضفة الغربية، وأن الانقسام مؤسسيا حصل باستناد حماس على مؤسسة المجلس التشريعي وحق أغلبيته في تشكيل الحكومة، ومحاسبتها، وإعطاء الثقة وحجبها؛ وباستناد فتح على مؤسسة رئاسة السلطة، وقدرتها على الاستفادة من هيمنتها على منظمة التحرير في "شرعنة” إجراءاتها.
وَوَجهُ الإيهام والتضليل في هذا المصطلح أن الانقسام بمعناه الظاهر محصور في الضفة والقطاع، ولكن الطرفين لا يتقاسمان في الحقيقة المسؤولية في البيئة الفلسطينية العامة ولا في المؤسسة "الرسمية” الفلسطينية. فقيادة فتح التي هي قيادة السلطة تسيطر على منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الرسمية التشريعية والتنفيذية بشكل كامل، وتحتكر السفارات والتمثيل، وصناعة القرارات وإنفاذ السياسات والإجراءات؛ بطريقة شبه مطلقة. أما حماس فنصيبها عمليا "صفر” في منظمة التحرير، وهي ليست مسؤولة عن تعطيل أي قرارات أو إجراءات في المنظمة. أما مسؤولية ضعف المنظمة وانهيار مؤسساتها وتدهور أدائها وإغلاقها في وجه عملية الإصلاح والتغيير والشراكة؛ فهي مسؤولية قيادة فتح عباس دون غيرها.
والهيمنة والسيطرة على "الشرعية” الفلسطينية هي سيطرة فتحاوية بالأساس، سواء أكان ذلك في المنظمة أم في السلطة، وهي الجهة الممسكة فعليا بمفاتيحها. ومن ثم، فتعطيل أو إنفاذ أي عملية إصلاحية تشريعية أو تنفيذية، هو أمر مرتبط بالأساس بقرار قيادة فتح وليس بغيرها، ولا يمكن تحميل حماس أو قوى المعارضة المسؤولية عن ذلك.
كما أثبت السير في التجربة الأخيرة لإصلاح البيت الفلسطيني، أن حماس قدمت التنازلات التي طلبتها فتح كافة، بالرغم من أن عددا منها حقوق أصيلة كالتنازل عن شرط التزامن الوارد في اتفاق المصالحة 2011، أو السكوت عن حل المجلس التشريعي. وأنه عند لحظة الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي، فإن قيادة فتح عباس هي التي عطلت المسار، وأعادت الجميع إلى مربع "الانقسام” لتتابع الاستئثار بالسلطة، ولتتهرَّب من الاحتكام إلى الشعب الفلسطيني؛ ولينكشف أمام الجميع أن هناك من يتحمّل أساسا مسؤولية الانقسام.
باختصار هم ” ليسوا سواء”، إذ من الظلم أن يُستخدم هذا المصطلح "طرفي الانقسام”:
• فهناك طرف يستند في شرعيته إلى عكازات عربية ودولية مصطنعة، في مقابل طرف يستند (ومستعد أن يستند) إلى إرادة الشعب الفلسطيني.
•وهناك طرف متنازل عن معظم فلسطين، ومرتَهن لإرادة الاحتلال، ويقود كيانا وظيفيا يخدم الاحتلال، ويطارد المقاومة ويقمع الحريات، في مقابل طرف متمسك بفلسطين كاملة، ويقاتل الاحتلال ويصنع الانتصارات، ويعبر عن كرامة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية.
•وهناك طرف يُغلق أبواب المؤسسات الدستورية ويبلع مفاتيحها، وطرف محروم من نيل فرصته العادلة وحقوقه الطبيعية.
• وهناك طرف يستند إلى مسار تسوية فاشل موهوم، منتهي الصلاحية، وطرف يستند إلى الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في كامل أرضه، وإلى الميثاقين القومي والوطني لمنظمة التحرير نفسها.
• وهناك طرف مسؤول أساسي طوال أكثر من ثلاثين عاما دستوريا وسياسيا وأخلاقيا عن التراجعات والكوارث التي أصابت العمل الفلسطيني؛ وطرف تابع الصبر على قمع سلطة عباس، كما تابع القبض على جمر المقاومة وتحدي الاحتلال والنكاية في العدو.
وبمعنى آخر، فلسنا أمام مجرد "طرفين مخطئين”، بحاجة فقط للخروج من حساباتهما الذاتية، وإنما أمام اتّجاهين مختلفين في الرؤية والمنهج ومسارات العمل وأولوياته، ومختلفين في العقلية التي تُدار بها الأمور، ومختلفين في طريقة الاستناد إلى الشرعيات. ومن ثم، فتعبير "طرفي الانقسام” بالشكل الذي يتم استخدامه فيه، يعطي إيحاء مُضلّلا، وهو غير دقيق علميا وموضوعيا.
ثم إن علاج الانقسام ليس مرتهنا فقط بمجرد الدخول في بيت واحد، وإنما بطريقة إدارة هذا البيت، وفق منظومة يحترمها الجميع (تعبّر عن المصالح العليا للشعب الفلسطيني وتطلعاته وتطلعات أُمته).. وإلاّ فـ”الطلاق” نهايته السريعة والمحتومة.
نتابع لاحقا أوهاما أخرى!!