لم تكن حالة الوحدة بين كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والأراضي المحتلة والخارج خلال معركة القدس، أمراً طارئاً، أو عابراً، بل عبرت عن حالة نضوج غير مسبوق لوعي جماعي فلسطيني مختلف عما ساد منذ بدء الحديث عن مشاريع السلطة الفلسطينية في السبعينيات من القرن الماضي، والدولة الفلسطينية في الثمانينيات بحيث تقام على الأراضي المحتلة عام 1967.
فمشاريع التسوية والمفاوضات وعملية السلام والحلول المرحلية، استندت إلى قناعة توجها اتفاق أوسلو، بتوفر إمكانية لحل وسط مع دولة الاحتلال إسمه حل الدولتين، بحيث يُعترف بإسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية وبدولة فلسطينية على 28% منها، أي أراضي الضفة والقطاع بما فيها القدس الشرقية.
وفي إطار هذه الحلول تصبح قضية الفلسطينيين المقيمين في الداخل، قضية مساواة وحقوق مدنية، مع تضامنهم مع نضال أشقائهم في الأراضي المحتلة.
غير أن هذا -البرادايم- "التصور” الذي ما زالت أركان السلطة الفلسطينية تتمسك به تعرض للتدمير بفعل ثلاثة عوامل.
أولها: فشل اتفاق ونهج أوسلو، وانكشاف الموقف الاسرائيلي الصريح عبر توسيع الاستيطان الاستعماري بشكل غير مسبوق بحيث تضاعف عدد المستوطنين مرات عديدة من 110 آلاف عام 1993 إلى ما يزيد على 700 ألف اليوم، واتضاح الصورة الحقيقية لموقف الحركة الصهيونية بأنها لن تسمح بقيام دولة فلسطينية، وأقصى ما تقبل به هو كيان حكم ذاتي هزيل على ما لا يزيد عن 38% من الضفة الغربية، في معازل وبانتوستانات مقطعة الأوصال دون سيادة، ودون سيطرة على الحدود، أو المعابر، أو الأجواء، أو المياه، أو الأمن.
وهو موقف تجمع عليه خطة صفقة القرن، وبرنامج نتنياهو، والبرنامج الرسمي لحكومة نفتالي بنيت المتطرفة والعنصرية، ولا يوجد ما يثبت أن أياً من اسحق رابين أو شمعون بيرس أصحاب اتفاق أوسلو كان لديهما خطة مختلفة.
العامل الثاني:تبني الحركة الصهيونية لقانون القومية، وإقراره رسمياً في الكنيست، والذي نفى عن الفلسطينيين المقيمين في الداخل حق تقرير المصير، والحق في المواطنة الكاملة، وهو قانون جعل من كل أرض فلسطين التاريخية، والتي يسمونها "أرض اسرائيل” حكراً لليهود واليهود فقط، الذين لهم الحق المنفرد في تقرير المصير. أي وبكلمات أخرى، فإن الأحزاب الصهيونية من يمينها إلى يسارها المزعوم، تبنت فكرة يهودية الدولة، على أمل أن يأتي يوم تتخلص فيه من الفلسطينيين بالترحيل والتهجير والتطهير العرقي.
العامل الثالث:معالجة الحركة الصهيونية لمعضلة الوجود الديموغرافي الفلسطيني، بتبني منظومة الأبرتهايد العنصرية على أساس استمرار الاحتلال والاستيطان الإحلالي ومحاولات التطهير العرقي، وبلورة نظام أبرتهايد استعماري أسوأ مما كان قائماً في جنوب افريقيا.
وهذا التطور الذي واصلنا الإشارة إليه على مدار أكثر من عشرين عاماً، اكتشف أخيراً من العالم بتأثير ثلاثة تقارير، أولها: تقرير فريق "الاسكوا” الذي رفضت الأمم المتحدة نشره، وثانيها: تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش”، وثالثها:تقرير منظمة حقوق الانسان الاسرائيلية "بتسيلم”.
ما جرى في الأشهر الأخيرة، هو نضوج الوعي الفلسطيني، وخاصة لدى جيل الشباب المتحرر من أوهام ومشاريع الماضي، بأن الفلسطينيين بكل مكوناتهم سواء كانوا في الداخل، أو الضفة والقطاع والقدس، أو المهجرين في الخارج يتعرضون لنفس منظومة القمع والاضطهاد والتمييز العنصري. وأن هذه المنظومة التي عنوانها قانون القومية، ستواصل حرمان اللاجئين من حقهم في العودة، وستواصل الاضطهاد العنصري للفلسطينيين ممن يعيشون في يافا وحيفا وعكا وكل مناطق الداخل، وتعمل على تكريس الاحتلال ونفس منظومة الاضطهاد العنصري في الضفة بما فيها القدس والقطاع.
ولا يحتاج الإنسان لبحث علمي كي يدرك أن ما يجري في الضفة الغربية من استيلاء على الأراضي وبناء المستعمرات هو مجرد تكرار لما قامت به الحركة الصهيونية في فلسطين الداخل منذ عام 1948.
أما الإجراءات القمعية الاسرائيلية التي اتبعت ضد الفلسطينيين في أراضي 1948، وخاصة في مدن كاللد وأم الفحم وعكا ويافا وحيفا والنقب، وشملت أكثر من ألفي عملية اعتقال، بالإضافة إلى إعادة العمل بالاعتقال الإداري ضد مواطنين يحملون الجنسية الاسرائيلية، في تماثل مع ما يجري لسكان الضفة الغربية، إنما تؤكد تقهقر الحركة الصهيونية وحكام اسرائيل إلى ما حاولوا إخفاءه، بأن كل الفلسطينيين في كل أراضي فلسطين التاريخية يتعرضون لحكم عسكري، واحتلال، و اضطهاد عنصري واحد.
المفارقة التاريخية، أن سلوك وجشع الحركة الصهيونية برفض وقتل فكرة الحل الوسط، وتوسيع نطاق التهويد والضم ليشمل كل الأراضي المحتلة، إنما أعاد القضية الفلسطينية إلى جذورها التي بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر بنشوء الحركة الصهيونية، وإقامة دولة يهودية على أرض شعب فلسطين، وممارسة التطهير العرقي، والتهجير، والقمع المنهجي ضده.
وفي ضوء كل ذلك، وكنتيجة له، آن الاوان لتبني فكر فلسطيني موحد وجديد، يستند إلى تاريخ وجذور القضية الفلسطينية بالتخلي عن أوهام فكرة الحل الوسط، والإصرار على أن الهدف الفلسطيني الجامع لا يقتصر على إنهاء الاحتلال، بل يمتد إلى إسقاط نظام الاضطهاد و الابرتهايد العنصري في كل فلسطين التاريخة، وتحقيق تقرير المصير والحقوق القومية والمدنية الكاملة، بما يعنيه ذلك، من حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ومن إلغاء ليهودية الدولة وقوانينها الجائرة.
وبكلمات الشباب الذين التقيناهم في مظاهرات يوم الإضراب الموحد أثناء "معركة القدس”، فإن فلسطين بالنسبة لهم ليست الضفة الغربية أو قطاع غزة، بل كل فلسطين التاريخية من النهر الى البحر وفي القلب منها القدس.