منذ بداية التحرك نحو الاستقلال، كانت ليبيا مساحة انشدت إليها التيارات الآيديولوجية القادمة من خارج حدودها. بعيد حصول برقة على الحكم الذاتي من بريطانيا تحت إمارة إدريس السنوسي إثر خروج قوات الاستعمار الإيطالي وتقدم القوات البريطانية للسيطرة على كامل التراب الليبي، وصل إلى بنغازي ثلاثة من جماعة الإخوان المسلمين في مصر هرباً من ملاحقة السلطات الملكية، وهم محمود الشربيني وعز الدين إبراهيم وجلال سعدة، أجارهم الأمير إدريس ورفض تسليمهم للسلطات المصرية رغم الضغوط البريطانية. بعد ثورة 23 يوليو (تموز) كلّف مجلس قيادة الثورة المصرية أحد أعضائه حسن إبراهيم، بتولي ملف العلاقات مع حكومة المملكة الليبية المتحدة، وقيل إنه من أصول ليبية. تعرفت عليه عندما كنت أتدرب على جمع الأخبار بدار «أخبار اليوم» أثناء دراستي بقسم الصحافة بجامعة القاهرة، حيث قدمني له الصحافي الذي أرافقه في عملية التدريب. حدثني حسن إبراهيم عن تلك المرحلة المبكرة من العلاقات بين البلدين. قال في البداية لم يكن لثورة يوليو آيديولوجية لتصديرها إلى خارج الحدود المصرية، ولكن بعد انفصال سوريا عن مصر وتأسيس التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي العربي داخل مصر، جرى تأسيس فروع له في بعض الدول العربية ومن بينها ليبيا، وبدأت العناصر الليبية تتحرك بتعليمات من مكتب عبد الناصر، وإشراف رجل المخابرات فتحي الديب.
الأستاذ سالم الكبتي، المؤرخ السياسي والاجتماعي الليبي، نشر منذ فترة قصيرة كتاباً بعنوان «أيام القومية في ليبيا»، ألقى فيه الضوء على امتداد الفكر القومي العربي وتنظيماته داخل ليبيا منذ الاستقلال إلى ثورة الفاتح سبتمبر (أيلول) سنة 1969، منذ اليوم الأول للاستقلال مُنعت الأحزاب في ليبيا التي قامت في مرحلة الوجود البريطاني في البلاد. الملك إدريس السنوسي الذي أمضى سنوات في مصر وعايش الحياة الحزبية في العهد الملكي بها، اتخذ موقفاً صارماً من الأحزاب، وتخوف من تأثير القوى الخارجية عليها ومنعها في ليبيا. جمعية عمر المختار في برقة ضمت نخبة سياسية وثقافية، شكلت وجوداً فاعلاً في الحياة الوطنية وقادت حراكاً جمع بين الأعمال الخيرية والنشاط السياسي والثقافي الوطني، وتفاعلت مع القضايا والأحداث القومية العربية، لكن النظام ظل ينظر إليها في كثير من الأحيان بعين التحفظ والريبة. ذهب الليبيون مبكراً إلى مصر كلاجئين وسياسيين يقاومون بطش الاستعمار الإيطالي، كما التحق الطلاب بالمدارس والجامعات المصرية وعادوا منها ومعهم ما أطلقه الرئيس جمال عبد الناصر من شعارات. بعد الاستقلال جاء المدرسون المصريون ومعهم المناهج التعليمية المصرية وفتحت مصر مراكز ثقافية لها بليبيا، وكانت مراكز سياسية وفكرية تبشيرية. كان الليبيون منجذبين إلى كل ما يصدر من إعلام جمال عبد الناصر. الفراغ السياسي شبه الكامل في المملكة الناشئة آنذاك شكل منطقة رهو تتحرك نحوها التيارات الفكرية القادمة من خارج البلاد. بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا، جرى منع نشاط حزب البعث في القطرين، ونشط البعثيون السوريون في تصدير تنظيمهم إلى البلدان العربية الأخرى ومن بينها ليبيا. بدأ حزب البعث ينشط في ليبيا منذ سنة 1958. ولكنه اكتُشف وبدأت التحقيقات والمحاكمات سنة 1961، وصدرت الأحكام بعدها بسنة واحدة وكانت في مجملها بالحبس وغير قاسية.
يعرض الأستاذ سالم الكبتي في كتابه «أيام القومية في ليبيا»، وقائع مهمة في محطات التاريخ الليبي. في مارس (آذار) 1965، كُلف السيد حسين مازق بتشكيل الحكومة خلفاً للسيد محمود المنتصر الذي عين رئيساً للديوان الملكي. قابل السيد مازق الملك إدريس واقترح عليه ترؤس اجتماعات الحكومة للاقتراب من المشاكل والحلول، وكذلك تكوين حزبين يعملان في وضح النهار بموافقة الدولة، ويتوازيان مع مجلس الأمة في متابعة شؤونها والمبادرة بالإصلاح وسد أوجه الخلل. أحد الحزبين يكون مؤيداً للحكومة، والثاني معارضاً لها، ويقول الأستاذ سالم الكبتي: طبقاً لما أخبرني به السيد مازق شخصياً في عدة مقابلات معه في منزله ببنغازي، وافق الملك على الاقتراحين لكنه تساءل: ما الضمانة بعدم استعمال الحزب المعارض وصاحب الرأي الآخر من الخارج؟ ثمة حذر لا يزال ينتاب الملك قد يكون مبرراً وقد يكون غير ذلك، فهو يقترب من الثمانين من العمر ويؤمن بأن الظروف تتغير والأجيال تتطور، ولم يعد الجيل الحاضر يمثله جيل الكفاح والاستقلال فقط، والمنطقة عموماً ليست مثل أيام زمان. يعني أن هناك إدراكاً من السياسيين ومن الملك إدريس ذاته لحقيقة الفراغ السياسي في البلاد، لكن الحذر والتخوف من التغيير وتأثير الخارج كانا أكبر. البلاد مفتوحة فكرياً وثقافياً على كل التيارات والمكتبات والمراكز الثقافية الأجنبية التي تمتلئ بكل الكتب الدينية والماركسية والقومية، وزار البلاد خليط من المثقفين والشعراء والمفكرين، وأقاموا أمسيات في مختلف أنحاء البلاد، ومن بينهم مالك بن نبي والفاضل بن عاشور وأرنورلد توينبي والفريد لينتال وعبد الحليم محمود ونزار قباني ومحمد الفيتوري وعبد الوهاب البياتي وجون بادو وغيرهم.
تنظيم قومي جديد تحرك في البلاد. حزب القوميين العرب تغلغل في صفوف الطلاب ثم في الجيش، وفي قطاع البترول والنقابات والشركات، وتدرب بعضهم على السلاح وفنون القتال، وجرى القبض على رموز أعضاء التنظيم وحوكموا وسجنوا. أحسّ الملك بخطورة ما تشهده البلاد وفكر في الانسحاب، فوجّه رسالة إلى رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الحكومة، عهد فيها إليهم بتسيير الأمور، فظروفه الصحية والأزمة الخطيرة لا تسمح له بالمتابعة وكلفهم بتحمل المسؤولية. عبد الحميد البكوش، المحامي المثقف ترأس الحكومة، وطرح فكرة الشخصية الليبية لملء الفراغ الفكري الذي يجلب القادم من الخارج، وقام بعض الكتاب والسياسيين والصحافيين بالترويج لها، لكنها لم تنجح في تأسيس قوة فكرية تجمع كل الليبيين وتشكل سداً سياسياً وفكرياً أمام العواصف القادمة من الخارج. يختتم الكبتي كلامه بخلاصة قصيرة قال فيها: فراغ ولّد فراغاً وزادت الانقسامات.
يعرض الأستاذ سالم الكبتي في كتابه «أيام القومية في ليبيا»، وقائع مهمة في محطات التاريخ الليبي. في مارس (آذار) 1965، كُلف السيد حسين مازق بتشكيل الحكومة خلفاً للسيد محمود المنتصر الذي عين رئيساً للديوان الملكي. قابل السيد مازق الملك إدريس واقترح عليه ترؤس اجتماعات الحكومة للاقتراب من المشاكل والحلول، وكذلك تكوين حزبين يعملان في وضح النهار بموافقة الدولة، ويتوازيان مع مجلس الأمة في متابعة شؤونها والمبادرة بالإصلاح وسد أوجه الخلل. أحد الحزبين يكون مؤيداً للحكومة، والثاني معارضاً لها، ويقول الأستاذ سالم الكبتي: طبقاً لما أخبرني به السيد مازق شخصياً في عدة مقابلات معه في منزله ببنغازي، وافق الملك على الاقتراحين لكنه تساءل: ما الضمانة بعدم استعمال الحزب المعارض وصاحب الرأي الآخر من الخارج؟ ثمة حذر لا يزال ينتاب الملك قد يكون مبرراً وقد يكون غير ذلك، فهو يقترب من الثمانين من العمر ويؤمن بأن الظروف تتغير والأجيال تتطور، ولم يعد الجيل الحاضر يمثله جيل الكفاح والاستقلال فقط، والمنطقة عموماً ليست مثل أيام زمان. يعني أن هناك إدراكاً من السياسيين ومن الملك إدريس ذاته لحقيقة الفراغ السياسي في البلاد، لكن الحذر والتخوف من التغيير وتأثير الخارج كانا أكبر. البلاد مفتوحة فكرياً وثقافياً على كل التيارات والمكتبات والمراكز الثقافية الأجنبية التي تمتلئ بكل الكتب الدينية والماركسية والقومية، وزار البلاد خليط من المثقفين والشعراء والمفكرين، وأقاموا أمسيات في مختلف أنحاء البلاد، ومن بينهم مالك بن نبي والفاضل بن عاشور وأرنورلد توينبي والفريد لينتال وعبد الحليم محمود ونزار قباني ومحمد الفيتوري وعبد الوهاب البياتي وجون بادو وغيرهم.
تنظيم قومي جديد تحرك في البلاد. حزب القوميين العرب تغلغل في صفوف الطلاب ثم في الجيش، وفي قطاع البترول والنقابات والشركات، وتدرب بعضهم على السلاح وفنون القتال، وجرى القبض على رموز أعضاء التنظيم وحوكموا وسجنوا. أحسّ الملك بخطورة ما تشهده البلاد وفكر في الانسحاب، فوجّه رسالة إلى رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الحكومة، عهد فيها إليهم بتسيير الأمور، فظروفه الصحية والأزمة الخطيرة لا تسمح له بالمتابعة وكلفهم بتحمل المسؤولية. عبد الحميد البكوش، المحامي المثقف ترأس الحكومة، وطرح فكرة الشخصية الليبية لملء الفراغ الفكري الذي يجلب القادم من الخارج، وقام بعض الكتاب والسياسيين والصحافيين بالترويج لها، لكنها لم تنجح في تأسيس قوة فكرية تجمع كل الليبيين وتشكل سداً سياسياً وفكرياً أمام العواصف القادمة من الخارج. يختتم الكبتي كلامه بخلاصة قصيرة قال فيها: فراغ ولّد فراغاً وزادت الانقسامات.