اخبار البلد ـ تُعد إسرائيل المشروع الاستعماري المشترك بين الحركة الصهيونية من جهة، وقوى الاستعمار الغربي من جهة ثانية، وتُعد كذلك بمثابة المشروع الاحتيالي الأكبر على الإنسانية جمعاء في التاريخ المعاصر، إذ قدم الشركاء مشروعهم للرأي العام، لا سيما لشعوبهم وكأنه انتصار لقيم ومبادئ الديمقراطية التي يدعون أنهم يتقدمون بها على سواهم من الأمم والشعوب حول العالم، وجعلوا من دعم الرأي العام لهذا المشروع دليلاً وقرينة على صدق اعتناق الرأي العام لمبادئ وقيم الديمقراطية والليبرالية.
لا يفسر ذلك حرص القيادات الأولى للحركة الصهيونية والمؤسسين الأوائل للدولة على جعل التحالف مع القوى الغربية الكبرى (بريطانيا أولاً وأمريكا لاحقاً) ركيزة من ركائز الأمن القومي للدولة وحسب، بل يوضح لماذا حرص هؤلاء المؤسسون ومن خلفهم في قيادة الدولة على تخصيص نسبة كبيرة من مقدرات الدولة ومواردها، وكذلك مقدرات الجاليات اليهودية خارج إسرائيل، خاصة المقدرات المالية والإعلامية، في إبقاء هذه الركيزة حية وفاعلة في الرأي العام الغربي دائماً، علاوة على حرصهم على تربية الأجيال اليهودية داخل وخارج إسرائيل على أساس أن عدم تأييد إسرائيل كدولة يهودية، سواء من قبل الرأي العام غير اليهودي، أو من قبل اليهود، "بمثابة هرطقة تفوق الكفر بالرب، وتنطوي على مخاطرة تعريض اليهود لهولوكست جديد، الأمر الذي يوجب اتهام اليهود بالكفر، واتهام غير اليهود بالنازية، أو اتهام الطرفين بالتهمتين معاً”، وذلك وفقاً لمجادلة المفكر اليهودي المشهور وصاحب التأثير الكبير في أوساط الرأي العام الأمريكي عامة واليهودي خاصة "بيتر بينارت” في مقالته الشهيرة التي حملت عنوان: (Yavne: A Jewish Case for Equality in Israel-Palestine)، التي نُشرت في السابع من تموز العام 2020، في دورية (Jewish Currents`s) التي تصدر في نيويورك.
اليوم وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيس إسرائيل تُظهر التحولات العميقة في الرأي العام العالمي والرأي العام اليهودي خارج إسرائيل حول مشروع صناعة إسرائيل برمته أن هذا التحايل قد بانت حقيقته وانكشف زيفه، ولم يعد بمقدور إسرائيل وشركائها الاعتماد على الخطاب نفسه في حشد وتجنيد الرأي العام العالمي لصالح دعم ونصرة مشروع دولة إسرائيل كدولة يهودية في المنطقة، الأمر الذي يقوض مقومات الحفاظ على وجود الدولة، ويصيب إحدى الركائز التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي بجراح عميقة.
اللافت هنا أن هذه الجراح لا يبدو أنها قابلة للتشافي في المدى المنظور، إذ إن التحول في الرأي العام العالمي، لا سيما داخل أوساط الجاليات اليهودية في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعيش أكبر نسبة من اليهود بعد إسرائيل، يسير بوتيرة سريعة وغير متوقعة.
فلم تعد إسرائيل في نظر هؤلاء هي الاستجابة للهولوكست والمانع لعدم تكراره، إذ ببساطة كيف يمكن لمن نجا من الهولوكست أن يمارس أبشع منه ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين؟ كما أنها -أي إسرائيل- ليست كما ادعى مؤسسوها وشركاؤهم التجسيد الأخلاقي لقيم ومبادئ الإنسانية والديمقراطية، بل هي النموذج الوفي لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي سقط إلى غير رجعة في جنوب أفريقيا وفقاً للتقارير الصادرة حديثاً عن منظمة بتسيلم الإسرائيلية، وكذلك التقرير الصادر عن المنظمة الدولية لمراقبة حقوق الإنسان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه التقارير قد صدرت بالتزامن مع نشر كبرى الصحف والمجلات الناطقة باللغة الإنجليزية حول العالم عشرات المقالات والتصريحات لسياسيين ودبلوماسيين سابقين ومثقفين وأكاديميين ورجال إعلام وفنانين، معظمهم من اليهود من إسرائيل وخارجها يصفون فيها إسرائيل بدولة الفصل العنصري، الأمر الذي دفع البعض إلى قول إن هناك موجة تسونامي تجتاح الرأي العام العالمي حول النظرة لإسرائيل، وكان آخر هؤلاء سفيرا إسرائيل السابقان لجنوب أفريقيا (إيلان باروخ، وألون لييل) في مقال لهما نُشر على موقع (GroundUp) بتاريخ 8/ 6/ 2021، حمل عنوان (It`s apartheid) أو "إنها عنصرية”، لينضما بذلك إلى بيتر بينارت وناتان ثروول وآخرين.
وفي سياق متصل، كانت أسرة تحرير صحيفة الجارديان البريطانيا نشرت في الأسبوع الأول من شهر أيار الماضي على صدر صفحتها الأولى اعتذاراً عن العمل المُشين الذي أقدمت عليها حكومة بلادها العام 1917 بإصدارها وعد بلفور الذي أعطى اليهود الحق بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ما دفع أحد أبرز الناشطين اليهود في أمريكا (فيليب ويس) إلى القول إن (عهد نهاية الصهيونية قد بدأ) في مقالة له نشرت على موقع موندوويس بتاريخ 13/ 5/ 2021.
المفارقة هنا أن موجة تسونامي في تحول النظرة لإسرائيل من دولة تقوم على قيم ومبادئ الديمقراطية إلى دولة أباتهايد لم تهدأ أو تتراجع نتيجة لتساقط عشرات صواريخ "سيف القدس” على تل أبيب وباقي مدن إسرائيل، بل على العكس من ذلك زادت هذه الموجة اتساعاً لتشمل فئات عمرية من الشباب المحسوبين على المسيحية الصهيونية المعروفة بالأفانجليكان.
ويتجلى ذلك أيما تجلٍّ في استطلاعين للرأي نُفذا مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية أحدثت نتائجهما زلزالاً لم تهدأ تداعياته بعد في أوساط جماعات الضغط اليهودية المتحيزة لإسرائيل، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع الأول الذي نفذته مجموعة بارنا (Barna Group) لحساب جامعة نورث كالورانيا للوقوف على رأي الشباب الأفانجليكان المسيحيين في إسرائيل/فلسطين، ونشرت نتائجه بتاريخ 3/ 6/ 2021، أن 33,6% من الشباب في الفئة العمرية 18-29 يؤيدون إسرائيل، في حين بلغت هذه النسبة 69% في العام 2018، أي أن هناك تراجعاً في نسبة تأييد الشباب المنتمي للمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية بواقع 35,4%، وأظهرت النتائج بالمقابل أن ما نسبته 24,3% من الفئة العمرية نفسها يؤيدون الفلسطينيين، في حين لم تتعد نسبة التأييد للفلسطينيين 5,6% العام 2018، أي أن هناك ارتفاعاً في نسبة التأييد للفلسطينيين في أوساط الشباب المنتمي للمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية من الفئة العمرية 18-29 بواقع 18,7% في السنوات الثلاث الأخيرة.
وأظهرت نتائج الاستطلاع الثاني الذي نفذته جامعة هارفارد الأمريكية في نهاية شهر أيار الماضي للوقوف على رأي المواطنين الأمريكان في الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن العنف في الشرق الأوسط؛ إسرائيل؟ أم حركة حماس؟ حيث يرى ما نسبته 60% من الشباب في الفئة العمرية 18-34 عاماً أن إسرائيل هي من يتحمل مسؤولية العنف في المنطقة، فيما يرى 40% من الفئة العمرية نفسها أن حركة حماس هي من يتحمل المسؤولية، ويُحمل ما نسبته 51% من الفئة العمرية 35-49 المسؤلية لإسرائيل مقابل 49% يُحملون المسؤولية لحركة حماس، في حين تنقلب النظرة لدى من هم قوق سن الـ50 عاماً، إذ يُحمل ما نسبته 72% من المواطنين الأمريكان من الفئة العمرية 50-64 عاماً المسؤلية عن العنف في المنطقة لحركة حماس مقابل 28% يُحملون المسؤولية لإسرائيل.
ماذا يقول ما تقدم؟
لا مبالغة هنا بالقول إن بداية عهد كشف زيف الرواية الصهيونية قد بدأ فعلاً، لا سيما في أوساط الأجيال الشابة من اليهود وغير اليهود حول العالم، إذ بانت حقيقة إسرائيل كنظام عنصري يمارس الاضطهاد وجرائم التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، الأمر الذي يفرض على الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها الانتباه لهذه التحولات في الرأي العام العالمي، وأخذها بعين الاعتبار وهو يحاول بعث مشروعه الوطني من جديد.