ليس الإصلاح الذي يجري تناوله بكثرة هذه الأيام، في أوساط الحكم والحكومة والنخب السياسية، بالترف الفائض عن الحاجة، ولا هو بـ «المناورة التكتيكية» التي يمكننا تنفيذها سعياً لتخفيف احتقان أو لغاية «شراء للوقت»...الاصلاح بات «شرط وجود» للأردن، في ضوء ما يجبهه من تحديات، وما ينتظره من مخاطر وتهديدات.
ولعله أمرٌ مثير للسخرية، أن ترى سياسيين يتحدثون بلا تلعثم، كيف أن عجلة الإصلاح لم تتوقف عن الدوران، وكيف أن طريقنا نحو الديمقراطية، لا يعرف النكوص أو التراجع...أيها السادة، إن شرط النجاح في محاولتنا الإصلاحية المقبلة (إن كانت هناك محاولة وإصلاحية)، هو الاعتراف أننا بسياساتنا وتشريعاتنا وإجراءاتنا، قد ألحقنا «إعاقة» خطيرة، ولا أقول مزمنة، بمشروع الإصلاح، وأن كلفه اليوم باتت أعلى من أي وقت مضى، وأن كلفته غداً أو بعد غدٍ ستكون أعلى بكثير من كلفه اليوم.
ونقولها بصراحة: أن المسؤول الأردني، محقٌ تماماً حين يقول: إن الاقتصاد وتدوير عجلته والتعامل مع مشكلات الفقر والبطالة وتباطؤ النمو ارتفاع الدين وغيرها من مظاهر لخانقتنا الاقتصادية، التي تفاقمت باندلاع جائحتنا الصحية، هي أولى أوليات الأردنيين، وأن النجاح في معالجة هذه الملفات، ربما يلغي الحاجة للإصلاح السياسي أو يدفعها لأسفل سلم اهتمامات الأردنيين.
لكن ما لا يقوله المسؤول الأردني صراحة، أن النجاح في التصدي لضائقتنا الاقتصادية – الاجتماعية، ليست مهمة في متناول اليد، وأنه لا أفق منظورا للخروج من «عنق الزجاجة إياها»، وأن سنيناً صعبة ستمر على الأردنيين، قبل أن يصبح متاحاً لهم تنشق نسائم الانتعاش والازدهار، هذا إن عملنا برؤية وروية على معالجة هذه الملفات...نشر الوهم، بحجة إبقاء جذوة الأمل متقدة، لم يعد بضاعة تجد من يشتريها، والمكاشفة والمصارحة، هما أقصر الطرق للنجاح وبناء جسور الثقة المتبادلة.
المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تعزيز جهاز المناعة المكتسبة لمجتمعنا الأردني، هذه مهمة لا تنتظر التأجيل والتسويف، وطريق ذلك، إصلاح جذري، متدرج نعم، ولكن من دون تسويف أو مماطلة، ومن دون رهانات على التطورات الكامنة في بطون الأيام المقبلة، فنأخذ باليمنى مع قدمناه باليسرى...مطلوب إصلاح يطاول ضفاف الدستور و»العقد الاجتماعي» والقوانين الناظمة للعمل...مطلوب إصلاح يرعاه إصلاحيون، وليس رموز «التعطيل» و»سدنة» إبقاء القديم على قدمه...مطلوب إصلاح يلمس ثماره الأردنيون، ببرلمان قوى وحكومة قوية، وصحافة حرة، ومجتمع مدني مستقل، وقضاء فاعل ونزيه وشفاف،، ومجتمع منظم أفقياً على أساس المهنة والمصلحة والمواقف المشتركة، وليس عامودياً بالاستناد إلى روابط القرابة والدم.
مطلوب مبادرة تُترجم فوراً، إلى تشريعات وسياسات وإجراءات، لا أن تُركَن على الأرفف العالية، أو في الأدراج السحيقة، إلى جانب ما سبقها من مبادرات وأوراق واستراتيجيات...هذه المرة تبدو مختلفة عمّا سبقها، فنحن نسابق الزمن، لمنع «الانفجار»، وعلى الذين استمرأوا التماهي مع «حالة الإنكار» أن يستيقظوا قبل فوات الأوان...هذه المرة، لن تكون خسارتنا، بفقدان المزيد من الثقة بين الحاكم والمحكوم، بل نحن نقامر بدفع شعبنا وبلادنا، إلى قعر مستنقع سحيق من الفوضى.
من لم يقرأ جيداً معاني ودلالات أحداث الأشهر القليلة الفائتة على أقل تقدير، عليه أن يدرك أن لغتنا القديمة وأدواتنا القديمة، لم تعد صالحة للتعامل مع التحديات والتهديدات الراهنة التي تَجْبَنُها...ومن لا يزال منّا من يظن، أن العوامل التي منعت الأردن من الانزلاق إلى الفوضى التي عصفت ببعض دول الربيع العربي، ما زالت قائمة، ويمكن الركون إليها، مخطئ وعليه مراجعة مقارباته...وليس المهم دائماً، أن تتخذ الموقف الصحيح، فالأهم أن تتخذه في الوقت الصحيح.