تحول مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله خلال 48 ساعة إلى محج لوزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والشقيقتين جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية، فهذا الحراك الدبلوماسي الغربي والعربي الدائر في مقر القيادة الفلسطينية برهان جديد على أن للقرار الوطني الفلسطيني وللشرعية الفلسطينية والعاكس لإرادة الشعب الفلسطيني عنوانا واحدا، ورئيسا لشعب واحد، ووطن واحد، ولدولة واحدة عاصمتها القدس التي لا تقع في عمق ميدان الإطلالة الجغرافية المكانية والزمانية لمقر الرئاسة كمبنى وحسب، بل في البؤرة الدقيقة الواضحة لرؤية وبصر وبصيرة الرئيس أبو مازن الشاغل للمقر والمنشغل لحظة بلحظة بمصير عاصمة فلسطين، المدينة المقدسة، ومصير أهلها، وكيفية تعزيز صمودهم والوفاء لتضحياتهم، وتحريرهم من إرهاب المحتلين والمستوطنين وإجرامهم المشهود ... فللقدس والمقدسيين المناضلين الصامدين هنا صوت وطني خالص قوي مدوٍ يهز أركان العالم.
سمع الوزراء الأربعة موقفا واحدا من قائد حركة التحرر الوطنية الفلسطينية رئيس الشعب الفلسطيني باللغة التي يعرفونها ويدركون أبعادها، فكانت حرفيا بذات المضمون والمعنى، مع اختلاف الأبجدية، واعتبارات العلاقة مع الدولتين العربيتين الأردن ومصر باعتبارهما من عمقنا الاستراتيجي العربي، وتحمل كل منهما مسؤولية في قضايا مثل وصاية المملكة على الأماكن المقدسة في القدس، وجهود مصر الشقيقة في تثبيت وقف إطلاق النار وحفظ التهدئة على جبهة غزة، وقراراتها في المساهمة الفعلية لإعادة إعمار غزة، أما واشنطن ولندن فباعتبارهما الصانع الأول والمساند الدائم والداعم (لإسرائيل) على حساب حقوق الشعب الفلسطيني ومصلحة السلام الذي ما زالت مفاتيحه بأيدينا.
سمع الجميع الموقف الفلسطيني منطوقا بلسان فصيح لا يحتاج لاختبارات جديدة قاله الرئيس: "إن تثبيت التهدئة، ووقف العدوان خطوة مهمة تمهد الطريق للبدء الفوري لمسار سياسي ينهي الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية تحت إشراف اللجنة الرباعية الدولية، وعلى أساس قرارات الشرعية الدولية.. ولكن ليس قبل إيقاف اعتداءات المستوطنين المتطرفين المدعومين بقوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس المحتلة، خاصة في المسجد الأقصى المبارك ومنع الاستيلاء على منازل المواطنين الفلسطينيين وطردهم من أحياء مدينة القدس في الشيخ جراح وسلوان، وإيقاف الاعتقالات وهدم المنازل والاستيلاء على الأرض الفلسطينية ومنع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس ..ونحن في ذات الإطار – قال الرئيس- نواصل مساعينا لإنجاز الحوار الوطني لتشكيل حكومة وفاق وطني تضم الجميع ملتزمة بالشرعية الدولية، وقادرة على خدمة الشعب الفلسطيني في كل مكان ".
تلغي المساعدات التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي بلينكن قرار (بلفور الثاني دونالد ترامب) بقطع المساعدات المالية عن الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية، لكن الأهم بنظرنا قرار إعادة فتح القنصلية الأميركية التي أغلقها الرئيس الأميركي ترامب ودمجها مع سفارة واشنطن بعد نقلها إلى القدس التي اعتبرها عاصمة (إسرئيل)، علما أن أول قنصلية أميركية افتتحت في العام 1844 في باب الخليل في القدس القديمة (الشرقية) ثم نُقلت إلى شارع "كرشون أكرون"، في القدس الغربية حالياً. لكن بعد اغتيال القنصل العام توماس ويسون عام 1948، أعيدت القنصلية إلى القدس الشرقية في العام 1952 في منطقة طريق نابلس.
ننظرلقرار إدارة بايدن بعين الترقب الإيجابي والتفاؤل الحذر لخطوات وقرارات تالية، ارتكازا على أن افتتاح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية منسجم مع توجهها القائم على أساس (حل الدولتين) لكن المفيد أكثر لو تأكدنا أن الانطلاقة الثالثة لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية كانت الدافع المسرع لتحرك الدبلوماسية الأميركية والبريطانية نحو مقر الرئاسة الفلسطينية، فهنا واقعية سياسية لكنها عنيدة صلبة شديدة التمسك إذا ما ارتبط الأمر بالثوابت الوطنية، فيها آفاق رحبة للمتطلعين لسلام قائم على جوهر قرارات الشرعية الدولية، لكنها آفاق محروسة جيدا لا تسمح الغزاة المحتلين والمستوطنين بالمرور إلى أهدافهم أو تبرير وتمرير جرائمهم ضد الإنسانية وكأن شيئا لم يكن.
نحن مع العالم كلما كان العالم قريبا منا يشعر ويحس بآلامنا، ومدركا لطموحاتنا وأهدافنا، ومتيقنا بأننا لن نستسلم ولن نخضع، فآخر رسالة بعثها الشعب الفلسطيني من أرض فلسطين التاريخية والطبيعية الوطن الوحيد والفريد له، تاريخية بكل المعايير، وعلى العالم هذا استخلاص العبر.