أينما قرأت عن حركة العالم في هذه الأوقات، ستجد المعلقين يتحدثون عن تراجع حقوق الإنسان والمساواة والقيَم الإنسانية العليا. في العالم الرأسمالي الغربي، يشيرون إلى التفاوت الهائل في الامتيازات والدخول، واستئثار القلة بالكثرة، واستخدام الديمقراطية وسيلة لتمكين فئات وتهميش أخرى. وفي العالم الاشتراكي، سيتحدثون عن استبداد الحزب الواحد والفساد واستغلال السلطة. وفي العالم الذي ليست له هوية معروفة، تذهب أحوال الناس السيئة أصلاً إلى مزيد من السوء فحسب.
يجري الحديث الآن بصوت عالٍ عن فشل الديمقراطية الليبرالية وصعود اتجاهات الشعبوية والشوفينية والقومية المتطرفة. ولا يعثر أحد تقريباً على بدائل متماسكة. ثمة دعوات إلى نسخ معدلة من الاشتراكية ومنحها فرصة أخرى. ويتحدث البعض عن إصلاح المنظومة الرأسمالية نفسها، بتحديث أنظمة الانتخابات، والضرائب، وتوزيع الثروة. لكن تطبيق أي اقتراحات إصلاحية مرهون بيد نفس الجهات صاحبة السلطة المستفيدة من الوضع الراهن، والتي لن تتخلى عن امتيازاتها طوعاً.
المقلق أن هذه الحركة نحو الفوضى العالمية وتعاسة المزيد من البشر لم تقابلها منذ وقت طويل أي اقتراحات متماسكة ومقنعة تمنح الأمل وتحشد لحركة عالمية في الاتجاه المعاكس. وأصبح منطق الصراع والتنافس غير السلمي وحده هو الذي يتسيد المشاهد العالمية والمحلية. وكان ما فعلته التكنولوجيا والاتصالات والاختراعات هو تزويد مديري منطق الصراع من كل الأنواع بمزيد من الأدوات للعدوان والإيذاء والإخضاع. والنتيجة فوضى شاملة غير بناءة، لا ينجو أو يختبئ منها مكان في العالم تقريباً.
تنعكس حالة الضياع التي تعيشها القوى الكبرى بشكل مضاعف على العالَم التابع. في مرحلة ما، حكم العالم قطبان واضحان، يعرضان رؤيتين عالميتين متعارضتين بثقة على أنهما مشروعان صالحان لتحقيق رفاه الإنسانية وسعادتها. وكان أمام التائهين خيار اعتناق إحدى الرؤيتين كنجمتين هاديتين. لكن تهافت الرؤيتين معاً تبين، بالتحديد، بسبب كم التعاسة التي جلبتاها لأعداد متزايدة من البشر.
إذا كان الأميركيون يقولون إن بلدهم– أيقونة المثُل النهائية- يعاني من العنصرية والعنف والفروق الطبقية الهائلة وتفاوت الفرص؛ والأوروبيون ينتخبون الشعبويين والقوميين احتجاجاً على المؤسسة السائدة، والصينيون يوصفون بأنهم دولة مراقبة وقمع، وروسيا دولة فساد ومصادرة على الحريات، فما المثال الذي يمكن الاسترشاد به؟
الآن، تتراجع الأنظمة في العالم التابع، التي ادعت ذات مرة التجريب في الديمقراطية أو الاشتراكية أو رأسمالية السوق إلى محاولة العثور على هويات محلية. والاتجاه الظاهر ليس نحو تقاسم السلطة وإشراك المواطنين في القرار، وإنما تُستثمر أزمة الأفكار العالمية واضطراب النظم المهيمنة التي بدت مستقرة ذات مرة، للتحلل من أي إعلانات سابقة عن الديمقراطية بزعم جهد مخلص للالتحاق بركب المثاليين.
ما يزال يُحتفظ بالشكليات التجميلية، مثل الانتخابات البرلمانية –والرئاسية في الجمهوريات الاسمية- وإنما مع ضمان إفشالها عملياً وتقرير النتائج سلفاً بقوانين الانتخاب المحسوبة وتعديل الدساتير. وبعد استهداف الأحزاب والمحاولات الجماعية الممنوعة سابقاً، أصبح الأفراد يُستهدفون مباشرة لدى التعبير عن رأي غير مفضل، حتى في وسائل التواصل الاجتماعي. وما يزال الاعتقال السياسي شائعاً بمررات جديدة تُستنبَت غب الطلب، ويجري تشتيت أي بؤر للتجمع بمنتهى القسوة من دون توقع ردة فعل مهمة.
الشموليون الذين شعروا في فترات سابقة بالضغط متأثرين باتجاهات عالمية بدت جذابة، تحرروا الآن عندما لم يعُد هناك أحد يمكن معايرتهم به ومطالبتهم بتقليده. ويساعد انشغال كل بمشكلته على عودة إلى التقاليد المحلية لترتيب المجتمعات -غالباً على أساس استثناء التعددية وتكفير الاقتراحات وترسيخ النظم غير التقدمية أحادية الفكر بإسكات كل صوت مختلف.
في جزئنا من العالم، ما تزال الديمقراطية ومتعلقاتها -التي أصبحت تحت المراجعة والنقد في الغرب- شيئاً مستقبلياً لم نصل إليه بعد. ومن المؤكد أننا لا نستطيع القفز إلى ما- بعد- الديمقراطية، وما يزال خيارنا– مرحلياً- محاولة تطبيقها بجدية- بالانتخابات الحرة النزيهة التمثيلية حقاً، التي تشرك الناس في تقرير مصائرهم؛ وتأمين حرية التعبير وتنويع الاقتراحات؛ والعدالة في توزيع الفرص، وتحييد الفئويات وتمكين حكم القانون. ربما يكون هذا هو الحل الوحيد الذي
ما يزال بالوسع التجريب فيه لتخفيف الأزمات ومحاولة إنقاذ المجتمعات المتفككة الضعيفة، ولو أفضى ذلك إلى شيء قريب من شكل الدول المتقدمة التي هيمنت علينا بنفس الرؤى التي تُخضعها الآن للنقد والمراجعة.