رواية "القوقعة” لكاتبها السوري مصطفى خليفة، هي تعريف الألم، بحذافيره.
الرواية كُتبت، قبل الثورة بسنوات، وهي قصة شاب عاد من دراسته في أوروبا ليقاد من المطار إلى التحقيق، وبعد أن يقضي شهوراً من التعذيب الذي لا يوصف في مخافر عدة، يقاد للسجن حيث يقضي فيه ما يقارب العشرين سنة، بتهمة الانتماء لـ”الإخوان المسلمين”؛ دون أن يكلّف واحد من المحققين نفسه عناء الانتباه له وهو يصرخ "يا سيدي أنا مسيحي.. شوف هويتي”!!
في الرواية وصف دقيق لما يمكن أن تصل اليه مخيلة الجلاد، من ابتكار طرق جديدةٍ للألم.
يتحدث خليفة كيف يصطدم المجتمع ببعضه في زنزانة ضيقة، ويقوم أفراده بدور السجّان، نيابة عنه، وكيف ينسى السجناء عدوّهم المشترك فينشغلوا بخلق أعداء آخرين داخل الزنزانة الواحدة!
الرواية تسجيلية، توثيقية، حقيقية بالكامل، ليس فيها كلمة واحدة من الخيال، وكل حفلات الإعدام التي يرويها المؤلف شاهدها بأم عينه من ثقب صغير في باب الزنزانة يطلُّ على ساحة السجن!
المهم في الأمر أنه بعد كل سنوات السجن المريرة يكتشف خليفة أن تهمته كانت أنه ضحك يوماً ما وهو يدرس في الخارج على نكتةٍ قيلت عن الرئيس؛ لم يقل هو النكتة ولكنه لسوء حظه ضحك عليها، بوجود صديقٍ مخبر!
هذه الرواية راجت بعد الثورة، ربما لأن أحداً لم يكن ليجرؤ للحديث عنها فضلاً عن تداولها، وهي شاهد على الخراب العظيم الذي كانت تداريه حفلات الولاء والتصفيق داخل البلد "القوقعة”؛ وهي شاهدةٌ أيضاً على أسباب الجحيم الذي اندلع بعد ذلك!
والآن يوثق سجين آخر، هو وائل الزهراوي، تجربته في الجحيم، في رواية جديدة بعنوان "لهذا أخفينا الموتى”. فيقول في مقطع من الجحيم: كانوا يُجلسون المعتقل مربوطاً إلى كرسي، ثم يدخلون في فمه بربيش ماء من ذلك الذي نستخدمه في البيوت للشطف، ويدفعونه حتى يصل الى معدته، ويبدأ بقذف الدم من فمه، وحينها يدخلون سلكاً معدنياً شائكاً في البربيش، كتلك الأسلاك التي تستعمل كسياج للمزارع والسجون، وحين يصل السِّلك بدوره الى معدته يسحبون البربيش ويتركون السلك في جسده، فإن تنفّس أو تحرك أو قام أو قعد نهش السِّلك لحمه من الداخل.. حتى يموت!
كيف يصير الإنسان وحشاً؟ وكيف يعود إلى بيته في آخر النهار وكيف يذهب للصيدلية لشراء دواء السعال لأمه؟! كيف يستحم ويتناول العشاء ويلاعب أطفاله وهو الذي بدأ نهاره بمخالب قاسية انتزعت أرواح آباء وأبناء يشبهونه ويتحدثون بلهجته؟ بل قد تشاء الأقدار القاهرة أن يكون شقيقه هو في معتقل آخر يلقى الوحشية نفسها من سجّان آخر!
من يصنعُ الوحش فينا؟ هل يصنع الديكتاتور وحوشه أم هي الوحوش الكامنة داخلنا تصنع الديكتاتور وتنفق عليه من أرواحها المبذولة؟
هل ستشفى تلك المجتمعات في سنة أو سنتين أو عشرين سنة؟ قد ينخلع الديكتاتور من (شروشه) ويُغلق السجن ويتعافى السجين.. لكنّ السجّان لن يتعافى أبداً.. أبداً.