شئنا أم أبینا، علینا أن ننتقل في ھذه المرحلة إلى عقلیة جدیدة وأن نعترف بأن مصطلحات جدیدة یجب أن تدخل
حیاتنا، وأن نعتاد علیھا، الأردن لم یعد مشروعاً، ولكنھ الیوم دولة ناضجة ذات سمعة دولیة، والأردنیون لم یعودوا
شعباً یمكن ضبطھ على ایقاع محطة التلفزیون الوحیدة والتأكد من خلوده إلى النوم مبكراً، وعلینا أن نعترف بوجود
مصطلح جدید علینا أن نتعامل معھ وھو قضایا الفساد، والتي تظل على الرغم مما تثیره من صخب وجدل، أفضل
من حالة الحدیث عن الفساد بوصفھ شبحاً خفیاً لا یمكن الإحاطة بھ ولا محاصرتھ، فالأحادیث المرسلة عن الفساد
ستحولنا إلى مجتمع یتلقى صاغراً اتھامات الفساد المتبادلة، وستؤدي إلى إلحاق سمعة لا نستحقھا، وسندفع ثمنھا
.غالیاً حین نوصف بالدولة التي تحابي الفساد أو تستلم لھ
ثمة نقاط نظام علینا أن نتعرف علیھا بدایة، الأولى تتمثل في إشكالیة مصطلح الفساد نفسھ، فھو مصطلح واسع
ومتشعب ومرھق، وأي قضیة مالیة تنظر أمام المحاكم بین خصمین مدنیین یمكن أن تتعقد في تفاصیلھا لدرجة
المطالبة بحضور الخبراء، ومن باب أولى أن تكون قضایا الفساد التي تشتبك المؤسسات فیھا أكثر تعقیداً، ولا
یمكن متابعتھا من خلال الانطباعات الأولى، ولا یمكن التصدي لھا باستخفاف إعلامي، فضلاً عن استقاء تفاصیلھا
.وخفایاھا من مواقع التواصل مثلاً
النقطة الثانیة، ھي أن الأردن وفق المعاییر الدولیة لا یعتبر من الدول ذات الفساد الفادح، فوضعنا أفضل من دول
أوروبیة مثل الیونان وكرواتیا والمجر، ودول أخرى في الإقلیم مثل تركیا ومصر، ومع ذلك فإن من یسمع عن
الفساد یتخیل أنھ سیدخل إلى وكر للابتزاز والمحسوبیة، والمشكلة التي نواجھھا أننا نغرق في جلساتنا داخل الأردن
وخارجھ في الحدیث عن الفساد دون أن یكون لدینا قضایا فساد، ویبقى الفساد كیاناً عائماً لا نعرف حدوده،
.ویضربنا من حیث لا نراه
توجد شبھات فساد كثیرة من الأفضل أن تمضي إلى القضاء لیتبین مدى صحتھا أو خطئھا من أن تبقى موضوعاً
للحدیث، ویبقى الجمیع أمام خروج المتھم، البريء حتى تثبت إدانتھ، بریئاً أو مداناً بحكم قضائي، الأمر الذي
سیجعلنا ندرك الحجم الحقیقي للوحش الذي یؤرق حیاة الأردني، والذي یجعل كثیراً من المؤسسات تعیش في مأساة
«سكن تسلم» فلا أحد یتخذ قراراً ولا أحد یحسم أمراً، والوضع الذي أنتجناه في الأردن یجعل الجمیع متھماً بدلاً من
.تقدیم متھمین حقیقیین
نستخدم التعبیر القانوني، وھو الاتھام، ویوجد فرق بین الاتھام والإدانة، ولكن الاتھام لا یجب أن یقوم على أسباب
عشوائیة، وقبل أن یتقرر الاتھام تتخذ الكثیر من الخطوات وتتجمع الكثیر من الأدلة، ویمكن للمتھم أن یمتلك الأدلة
المضادة بالطبع، ومع ذلك، لا یمكن لأحد أن یشیر بإصبع الاتھام دون أن یمتلك أرضیة لما یدعیھ، وكذلك الأمر
.بالنسبة للحكومة، فھي أمام القضاء أحد خصمین، ولیست العامل الوحید
عملیاً، لا تمتلك الحكومة سوى أن تلجأ إلى دفاترھا القدیمة، ولنكن واقعیین، فالحكومة لم تستیقظ صباحاً بعد رؤیا
مؤرقة جعلتھا تنقض على ملفات الفساد، والحكومة مضطرة تحت ضغط شعبي كبیر یقف أمام قراراتھا الاقتصادیة
الصعبة لأن تتقدم على صعید مكافحة الفساد، وعملیاً فإن أي حكومة في ظروف عادیة لم تكن لتتخیر الدخول في
مواجھة مع الفساد في توقیت یسبق الانتخابات النیابیة، ولا أن تتخیر معركة جدیدة في ذروة توتر اجتماعي یترافق
.مع مخاوف وبائیة، فالحكومة محملة بالمشكلات، ومشبعة بالحضور الإعلامي في الوقت ذاتھ
محاربة الفساد ھي مطلب شعبي أصبح یشكل توجھاً حكومیاً، ومع ذلك توجد ردود فعل محبطة، بین الاتھام
بالانتقائیة أو الدفع بتصفیة الحسابات، وھو أمر من المنطقي والمفھوم بالنسبة للمقربین من أي متھم وفي أي قضیة
بالمناسبة، وشعور إنساني یمكن أن نتفھمھ، ولكن أن یتحول إلى حرب مضادة على الفساد، فالقنابل الدخانیة لن تفید
.أحداً وأولھم المتھمون لأن ذلك سیحول شأناً قضائیاً بحتاً إلى بازار اجتماعي وإعلامي
السلطة القضائیة یجب أن تبقى بمعزل عن ھذه التجاذبات، والتحقیقات والمحاكمة ستكون تحت ضغط الرأي العام،
وإذا لم نكن على ثقة من القضاء بمختلف درجاتھ، فالأفضل أن نطالب بتوفیر ما ننفقھ على الأمن العام والمخافر
.والمحاكم وأن نتكفل بتسویة خلافاتنا خارج القانون
أما الانتقائیة فھي من واجب مجلس النواب أن یتابعھا، فالمجلس ھو الذي یضع القوانین التي یفترض أن تحاصر
الفساد وأن تحاربھ، وعلیھ أن یراقب أداء الحكومة وأن یوجھھا وأن یحرجھا بما یدفعھا في التوسع في محاربة
الفساد، وھو الأمر الذي سینھي الانتقائیة، أما أن یتدخل النواب في القضایا ویبدأون في محاكمة على النوایا، فذلك
یتخطى دورھم، ویصبح التغول في ھذه المرحلة من المجلس النیابي على الحكومة، فعلى النواب أن یتركوا
.الشكوى والكلام المرسل والبطولات الخطابیة لیقیدوا الحكومة ویقمعوا مبكراً میلھا للانتقائیة وتصفیة الحسابات
أنا مواطن وأب، ومن ھذه النقطة أعرف أن الحرب على الفساد طریق طویل وصعب ومرھق، وأنھ تجربة دولة
كاملة، ولكن ما أعرفھ أیضاً أن أطفالي سیستفیدون بشكل أو بآخر عندما تصبح محاربة الفساد أمراً شائعاً، بدل أن
یأكلھم الیأس والاحباط وھم یتحدثون عن الفساد الذي یحرك كل شيء دون أن یتمكنوا حتى من فھمھ، وأعرف لو
أنني ھاجرت إلى بلد آخر، مثل ألمانیا، فإن أبنائي سیعتادون على محاكمات الفساد التي یخرج منھا المتھمون
برؤوس مرفوعة ویعودون لاستئناف حیاتھم من جدید بكل شجاعة وقوة، أو یتلقون ما یستحقونھ من عقاب، ولأن
الشيء بالشيء یذكر، فإن میركل نفسھا واجھت اتھامات الفساد ودافعت عن نفسھا، ولم نجد أنصارھا الحزبیین
.یتشنجون أو یشككون في النوایا، ویلقون قنابل الدخان من حولھم