للحجر البيتي، الإلزامي أو الذاتي الذي فرضته جائحة كورونا على مئات الملايين من البشر، منافع شتى تتباين تبعاً للمناطق والأعمار والاهتمامات، وما يتوفر ويكون متاحاً أصلاً، غنيّ عن القول؛ إذْ يحدث، على نطاق غير ضيّق أغلب الظنّ، أن يطمح امرؤ إلى ممارسة هواية ما فلا يجد ضالته، أو لا يعثر إلا على مادّة تستحثّ الضجر والضيق والقلق، بدل الاستمتاع والتسلية وحُسْن تزجية الوقت. ثمة، إلى هذا، ما يشبه الإجماع على أنّ القراءة (في منافسة حامية الوطيس مع مسلسلات التلفزيون مثلاً) تأتي في صدارة الفوائد التي تحقق التعامل مع الحجر من منطلق «ربّ ضارّة نافعة»
وقبل أيام نشرت أنغيلا هوبت مقالة في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، أحصت فيها عشرة أنماط من القرّاء يمكن أن يتوفروا خلال أزمنة الحجر هذه، ضمن مشهدية أمريكية بالطبع؛ لكنها تصلح، على أكثر من نحو، لتلمّس نماذج مماثلة على نطاق كوني أيضاً. ثمة قارئ يبحث عن المعنى في الطارئ العجيب، وثانٍ «هروبي» يهرع إلى العوالم العجائبية، ورابع أب لأطفال يقرأون أو يعيدون قراءة ما في حوزتهم من كتب، وخامس ينتهز فرصة الوقت المتاح لتطوير مهارات جديدة، وسادس أجهز أو يكاد على مسلسلات نتفليكس فأخذ يقرأ نصوصها، وسابع رياضي المزاج يقرأ كتب الرياضة بعد أن عزّت عليه مشاهدة المباريات المختلفة، وثامن آن له أن يقرأ أمهات كلاسيكية ضخمة مثل «الحرب والسلم»، وتاسع رومانسي ينفض الغبار عن الروايات العاطفية التي أبكته ذات يوم، وعاشر «مازوشي» المزاج يغرق في روايات الحيال العلمي التي تصف الجوائح
ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ القراءة (في منافسة حامية الوطيس مع مسلسلات التلفزة مثلاً) تأتي في صدارة الفوائد التي تحقّق التعامل مع الحجر من منطلق «ربّ ضارّة نافعة»
ثمة، بالطبع، أنماط أخرى عديدة ومتنوعة، بعضها لا يجمعه جامع مع أيّ من قرّاء هوبت العشرة؛ لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، تاريخية وجغرافية ونفسية. وثمة، أيضاً، ذلك التنوّع المعتاد المذهل في القراءات المتعددة للنصّ الواحد ذاته، طبقاً لتأويلات ذات صلة بالأسباب المشار إليها أعلاه، واستناداً إلى سيرورات بالغة التعقيد تكتنف فعل القراءة بين قارئ وآخر. ولستُ أكفّ شخصياً عن الاندهاش للبلاغة البارعة والصائبة التي انطوى عليها غلاف الطبعة السابعة (1992) من كتاب «نقد استجابة القارئ»، الذي أشرفت على تحريره جين تومبكنز، وصدر للمرّة الأولى عام 1980 وأصبح بعدئذ مرجعاً كلاسيكياً في دراسة نظريات النقد المنشغلة بالعلاقة بين القارىء والنصّ. الغلاف يحمل رسماً كاريكاتيرياً يصوّر امرأة تقف في حافلة عامّة، تقرأ في كتاب مفتوح، مقطّبة الحاجبين وجدّية الملامح؛ على يمينها يتطفّل رجل يقرأ الصفحة ذاتها من الكتاب، ولكنّ دموعه تسيل مدرارة؛ وعلى يسارها يتطفّل رجل ثانٍ يقرأ ذات الصفحة، ولكنه يكاد يسقط على قفاه ضحكاً!
هو النصّ الواحد ذاته، والفعل (في مستواه الفيزيولوجي على الأقلّ) واحد كذلك؛ لكنّ القرّاء ثلاثة، والاستجابات ليست مختلفة ومتناقضة فحسب، بل تتراوح بين الجدّ والبكاء والهزل. لماذا، وكيف حدث أنّ النصّ ذاته استدعى هذه القراءات الثلاث في آن معاً، في الزمن الواحد ذاته، وفي المكان الواحد ذاته؟ أسئلة أخرى، أكثر تعقيداً في الواقع، يمكن أن تنجم عن هذا الموقف الطريف الدالّ، بينها الطائفة التالية على سبيل الأمثلة: ما هي القراءة؟ مَن هو القارىء؟ ما هو مصدر السلطة التي تخوّل الحقّ في تأويل القراءة؟ ما الذي يقوم به القارئ، على وجه الدقّة، حين يقرأ؟ هل النصّ هو الذي يحدّد القراءة؟ أم استجابات القارئ الذاتية؟ أم العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟ أم هي أعراف القراءة في مجتمع ما، في برهة زمنية ـ تاريخية ما؟ أم جماع ذلك كله؟ ثمّ هل توجد، بالفعل، قراءة صحيحة أو سليمة؟ وإذا صحّ ذلك، فكيف في وسعنا أن نقول عن قراءة ما إنها صحيحة، وعن أخرى إنها خاطئة؟ كيف تؤثّر النصوص على القرّاء؟ هل توجد «أخلاقيات» قراءة؟
وفي الإجمال تبدو الأسئلة الثلاثة الأولى وكأنها تختصر المسألة بأسرها، غير أنّ محاولة الإجابة عنها ليست بالسهولة التي قد تلوح للوهلة الأولى؛ وهي، في كلّ حال، لا تُختزل إلى تلك الإجابة الغريزية التي تقول ببساطة: ولكن القراءة هي القراءة، والقارئ هو القارئ، فعلام العناء إذن! العناء، في مستوى أوّل، تختصره طائفة أخرى من التساؤلات: كيف تكون «القراءة هي القراءة» إذا كنّا، في سياق الحياة اليومية، لا نتحدّث عن قراءة الكتب والمجلات والصحف وحدها؛ بل نشير إلى «قراءة اللوحة» و«قراءة المنحوتة» و«قراءة المقطوعة الموسيقية» و«قراءة الملامح» و«قراءة الأقوال» و«قراءة النوايا»، و«قراءة الأحداث» و «قراءة الكفّ»؟
والناقد البريطاني تيري إيغلتون لم يجانب الصواب كثيراً حين اعتبر أنّ «في وسع المرء تحقيب تاريخ النظرية الأدبية الحديثة في ثلاث مراحل: الانشغال بالمؤلّف (المدرسة الرومانتيكية والقرن الثامن عشر)، والانشغال الحصري بالنصّ (مدرسة النقد الجديد)، والنقلة الملحوظة نحو الاهتمام بالقارىء في السنوات الأخيرة». تلك أقوال العام 1983، حين صدر كتاب إيغلتون «النظرية الأدبية: مقدّمة»؛ ولكننا اليوم لسنا في أطوار العودة إلى القارئ لجهة موقعه التأويلي والنقدي والسوسيولوجي في فعل القراءة فقط، بل كذلك في أنماط الاستشفاء والنقاهة والتعافي التي تتولاها السطور والصفحات، في هذه الأيام الكورونية تحديداً
(قرّاء الحجر وقراءاتهم)
أخبار البلد -