اغلب الظن اننا نشهد هذا الاوان نهاية مرحلة كاملة، وليس تهالك حكومة وبرلمان وبضع مؤسسات سيادية مولجة بصناعة القرار·
اغلب الظن ان المطلوب راهناً ليس مجرد تغيير وزاري، وحل المجلس النيابي، وتبديل رئيس مؤسسة حساسة بآخر، مثلما جرى عليه الحال طوال السنين الخوالي·· فقد اختلفت الدنيا كثيراً، وانقلبت جملة معادلات ومعايير وحسابات رأساً على عقب، وصبت مياه غزيرة ووفيرة في بحار المتغيرات والمستجدات والمفاجآت العربية والاقليمية والعالمية·
فمنذ مستهل العام الحالي، شهد البيت العربي من المغرب حتى سلطنة عُمان سلسلة من الزلازل والاعاصير الشعبية الثورية التي لم تكن تخطر على بال، او تحضر ولو في رابعة الخيال·· فقد انطلقت، على حين غرة، من رحم موات شعبي شامل ومزمن استغرق عدة اعوام وعقود، كان النظام العربي خلالها يعيث في الوطن فساداً، وفي الشعب تحكماً واستبداداً، وفي الحياة العامة تخلفاً وانحطاطاً·
لا حاجة لتعريف وتوصيف ما كان عليه الحال العربي البائس قبل العام الراهن، ولا ضرورة للحديث المتكرر عن روعة الربيع العربي وعبقرية الثورات والانتفاضات الشعبية، فذلك كله بات معروفاً ومتداولاً حد الملل·· المهم الآن هو قراءة المعاني والدلالات، واستخلاص العبر والدروس، واطلاق اجنحة الخيال السياسي لاجتراح الخطط والبرامج والمناهج النوعية المتقدمة والقمينة بوضع الجماهير العربية في مستوى طموحاتها وتضحياتها·
لم تعد الذهنيات والاساليب والوسائل السابقة والعتيقة مؤهلة للتعاطي مع شروط المرحلة الجديدة، والتعبير عن مستجدات الصحوة الثورية الراهنة، والتجاوب مع طموحات الشعوب عامة، والشباب على وجه الخصوص، بعدما فرضوا انفسهم على الواقع العربي عنوة واقتداراً، واثبتوا انهم قوة طليعية استشهادية، وليس - كما حسبناهم - كتلة هلامية رخوة ولا ابالية وانهزامية لا قِبل لها بالوطنية والثورة والنضال·
المطلوب الآن تفكير استراتيجي جديد لا يقوى عليه الا الاكفاء والنجباء والمتميزون، ولا يؤمن به ويؤتمن عليه الا الوطنيون المخلصون المعروفون بالنزاهة والوزن الشعبي·· فقد انتهى زمن المسؤولين الضعفاء والاغبياء والفاسدين الذين يتقلدون مناصبهم لقاء الولاء والطاعة، وليس الكفاءة والالمعية·· انتهى عهد التوريث السياسي الذي يتيح للابن وراثة منصب ابيه، وللحفيد خلافة جده في سدة المسؤولية·· انتهى عصر مزدوجي الجنسية المدعومين من خارج الحدود، والمحسوبين على العواصم الغربية والمحافل الدولية، والهابطين بالمظلات على المواقع الرسمية الرفيعة دون سابق معرفة او تجربة او انتماء وطني·
انتهت بدعة الحكم المطلق، والدولة المزرعة، والعقلية الابوية البطريركية، والثقافة الرضوخية والخضوعية المبنية على السمع والطاعة والبيعة والامتثال الاعمى لولي الامر المستبد·· فقد هبت عواصف التغيير والتثوير بكل قوة، وحضرت الجماهير الشعبية في ساحات النضال، وبات احتفاظ الحكام بدفة الحكم مهمة صعبة وعبئاً ثقيلاً، وليس - كما كان في السابق - محض ترف وفخفخة وسلطان وهيلمان وتصريف اعمال·
ولعل قراءة متأنية لوقائع السنوات القليلة الماضية، سوف تثبت للحكام العرب المخلوعين والصامدين ان الاخطار التي دهمتهم اليوم، وكانت تتربص بهم منذ سنوات خلت، لم تأت من خارج انظمتهم، ولا جاءت بالدرجة الاساس على ايدي خصومهم ومناوئيهم، وانما كانت كامنة في صلب انظمتهم، ومتأتية من لدن اعوانهم ومعاونيهم ورجالات حكمهم الفاسدين الذين استباحوا المال العام، وسرقوا اقوات الناس·· ثم الرجالات الفاشلين الذين اشغلوا مواقع رفيعة دون كفاءة واهلية، واسهموا في مفاقمة الازمات بدل حلها، وفي مهادنة التحديات عوض مجابهتها والتصدي لها، وباعدوا - بالتالي - بين اسيادهم الحكام الساهين واللاهين والمترفين، وبين المحكومين الذين اعياهم الصبر وفاض بهم الكيل·
اما استهانة هؤلاء الحكام بشعوبهم وادارة الظهر لها، اعتماداً على الدعم الخارجي، واستناداً الى رضا القوى الاستعمارية والصهيونية، فقد اكدت احداث الشهور القليلة الماضية ان ذلك كان وهماً كبيراً لا محل له من الاعراب، ولا يسمن او يغني من جوع·· وها هو حسني مبارك، عميد المتصهينين العرب قد سقط بين عشية وضحاها، دون ان تسعفه او تشفع له كل خياناته لامته، فيما كان من المتعذر، او حتى المستحيل، اسقاطه لو انه كان مخلصاً لوطنه وامته، ومتمتعاً بقاعدة شعبية عريضة، فالوطنية والنزاهة والشعبية هي رأس المال الحقيقي للحكام والقادة المحترمين·
لا بديل لنا في الحمى الاردني والبيت العربي غير اعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفق مقاربة استراتيجية شاملة وريادية، وليس مجرد تعديل هنا وترقيع هناك، وكلما كانت المبادرة الى هذه الصياغة اسرع، كلما كان ذلك افضل واسلم، نظراً لان استباق الاحداث اجدى وانجع من انتظارها، كما ان تقديم الاستحقاقات والتنازلات من موقع الاختيار اشرف واكرم للحكام من تقديمها تحت مكابس الضغط والاكراه والاضطرار·
نحن لا نتحدث هنا عن الاستحقاقات الداخلية والتحولات الديموقراطية فحسب، بل نطالب ايضاً باخضاع السياسات الخارجية، والنشاطات الامنية السرية للرقابة الشعبية، ووضعها تحت الاضواء وليس تحت الطاولة، وتسخيرها لخدمة الاهداف الوطنية وليس المخططات الاجنبية·· اذ لا قيمة ولا معنى لانشغال القوى الشعبية بالهموم والاهتمامات السياسية والاقتصادية الداخلية، فيما هي معزولة تماماً ومغيبة بالكامل عن خفايا السياسات الخارجية، والممارسات الامنية والعسكرية العابرة للحدود الاردنية·
ربما ينخدع الحاكمون بظواهر الامور، ويحسبون ان تراجع الحراك الشعبي مؤخراً يسوغ لهم المماطلة والتسويف في التغيير الجذري والجوهري ولكن عليهم ان يقرأوا بدقة وتمعن معاني توسع هذا الحراك افقياً، وانتشاره في البوادي والارياف والمدن والبلدات البعيدة عن العاصمة، ناهيك عن الارتفاع المطرد في سقف المطالب المعاشية، والشعارات السياسية التي بلغت، في بعض الاحيان، حدوداً غير مسبوقة، واوشكت على تجاوز كل الخطوط الحمراء، وتخطي اقصى ادبيات المعارضة التقليدية·
اما السبب الاول والاساس في هدوء الشارع وانخفاض الحراك الشعبي، فيعود الى وطنية قوى المعارضة وفصائلها واحزابها، والى عقلانيتها واستقلاليتها واعتدالها النسبي، والى حسن تقديرها لظروف البلاد والعباد في خضم هذا المنعطف العربي الخطير·· ولولا كل هذه الابعاد والاعتبارات الوطنية والمبدئية والاخلاقية الحميدة والمسؤولة، لكانت المعارضة الاردنية قد اقتدت بمعارضات عربية كثيرة شاركت في التآمر على بلدانها، وساهمت في تمزيق وتفريق شعوبها، وعمدت الى الاستقواء بالدوائر الاجنبية وقواها العسكرية، بما في ذلك حلف الناتو·· والعياذ بالله·