أجزم تماماً بأن كثيرا من الكلام الذي سأقوله في هذه المقالة لن يحتاج للتأويل والتفسير بحكم أنني قد قطعت العهد على نفسي أن لا أحدثكم بحال التعليم في بلدنا إلا من خلال وقائع حقيقية ، ولن أتحدث بها من منظور تحليلي وعصف ذهني وتنبؤات أسطورية تخضع لذات القياسات التي تتبعها وزارتنا العتيدة في مخاطبة المعلم .
لا أدري أيها الأعزاء سر تلك الحالة التي تحدث للمعلم عند سماعه لخطاب ناري يلقيه على مسامعه وزير التربية والتعليم أو أحد المسؤولين في وزارته ، حين يكون محور الحديث المكرر على ألسنتهم بأن المعلم له الرعاية و الإهتمام ، و الدولة لن تبخل عليه بأي صورة قد تجعله في أحسن حال ؟! ويلهبون العقول دائما وأبداً بالقول بان المعلم يحظى بالرعاية الملكية المميزة وهو موضع تقدير وإحترام قل نظيره لا يحظى به أي موظف أخر في الجهاز الحكومي .
لا أدري لكنني حاولت مراراً وتكراراً أن أقنع نفسي بأن الحديث الذي أسمعه حقيقي وواقعي ولكن ، أجد الواقع مختلف تماماً عن ما يقوله المسؤول العزيز ، فأرقب حال المعلم في مدارس وزارة التربية والتعليم لأجده منهكاً وناقماً على سياسة وزارته وحكومته بل ومتهكماً على أسلوب الحوار الذي تنتهجه في التعامل معه في ميدانه التربوي ! .
عن أي رعاية و ودلال يطربوننا في كل حوار ولقاء ونحن نرى أمامنا بأن المعلم أضحى يعاني من سلبيات ضخمة ترافقه من أول يوم عمل دراسي يعمل به في هذه المهنة أو الرسالة المعقدة ، فهو مجهد بتفكيره حتى في صغائر الأمور فلا عجب أن يتراكض في مدرسته حتى يتوفر له ورقة بيضاء ليكتب عليها أو حتى مجرد كرسي صغير يجلس عليه ، وفوق كل ذلك فهو ملزم بأن تتحول وظيفته كمعلم و مربي فاضل للأجيال الصاعدة إلى كاتب في عهدة وزارته لأوراق لا ناقة له بها ولا جمل، له ولطالب هذه الأوراق ..! دفاتر التحضير اللانفعية وخطط مطبوعة يتداولها العشرات والمئات من المعلمين ، ودورات تستنزف الوقت دون أي فائدة تذكر ، وطرح إستراتيجيات تعقيدية تحتاج على أسس متينة وقواعد تبنى عليها ، ولكن هيهات أن تحاول الوزارة إعادة النظر في هذه الشكليات ، التي وللأسف بنيت عليها جائزة الملكة رانيا للمعلم المتميز التي أصبحت جائزة فارغة من مضمونها وأسس تقديمها لمن يستحق .
قصة الدلال والرعاية التي يسمع بها المعلم ليست إلا مجرد حكاية أو أهزوجة من وحي خيال المتحدثين ، فالناظر غير المتمعن حتماً لحال المعلم والطالب يجد بأن الكلام ينافي الواقع تماماً ، ومجرد النظر أيضاً لواقع المدارس والتجهيزات والبنية التحتية يجعلك أيضاً تستغرب من طرحهم ، والحجة دائماً هي ذاتها ضعف التمويل و قلة الموارد ، فلا أردي إن كانت للتعليم والمعلم الرعاية الأولى والأهم في هذا الوطن ، فما الذي يحدث إذاً ، ألا يدري العازفون للحن الدلال التربوي بأن حكومتنا العزيزة تدخر الأموال حسب حاجتها ومصالحها في أمور كثير ، لا أدري إن كان بناء مركز أمني كبديل للموجود وسجن من طراز الخمسة نجوم وسفرات البروتوكولات لحيتان البلد السياسيين أهم من بناء مدرسة صغيرة تخدم أهل منطقة معينة يكتظ أبناءهم في غرف صفية في كل واحدة منها أكثر من أربعين طالب أو طالبة ، هذا الدلال وأولوية الرعاية ؟ .
و للنظر قليلاً في واقع الأجور التي تمنح للمعلم سنجد أيضاً حالة بائسة جداً لا ترقى أبدا للدرجة العشرين من الرعاية والإهتمام الذي يقولون به ، فما الذي تعنية ثلاثمائة دينار لمعلم ينوي بناء أسرة والإستقرار ، علماً بأنها لن تكفي الأعزب لوحده في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة ، وللأسف حكومتنا تحاول دائماً التهرب من هذه القضية ، فقد فرض عليها كما يبدو بأن تجعل المعلم في الدرك الأسفل في مجتمعه لأنه من غير الممكن أن يتقدم ، لأنه بإختصار سيصبح مصدر قلق بالنسبة لهم وسيزعج سكينتهم النائمة .
كل ما أتمناه بعد هذه اللحظة ان لا أسمع بعد اليوم مقولة ( كل الرعاية والإهتمام ) للمعلم ، الى حين أن يصبح الكلام حقيقة ، لا مجرد حروف تنسق على صدر الصفحة الأولى من الجريدة اليومية ، لتلهب عقول القارئين بمحتواها المظلل لكل من يراها أو قد سمع بأن غيره قد قرأ عنها .