كم منّا كان يتمنى أن يكون حاضرا ومستمعا للأحاديث التي تخللتها زيارة جلالة الملك لدائرة المخابرات العامة، ولقائه كبار الضباط فيها. فهذه اللقاءات بالتأكيد تتضمن مستوى متناهيا من الصراحة والمكاشفة وتبادل المعلومات الدقيقة، كما تنطوي على طرح رؤى استراتيجية عابرة للحكومات، تنظر للبلد وتخطط له على مدار يفترِض تعاقب عدد من الحكومات ورؤساء المؤسسات السيادية الأخرى.
الطريقة التي تم الإعلان بها عن الزيارة، وهذا بالتأكيد كان قرارا سياسيا بامتياز، تؤشر على أنها سعت إلى تحقيق هدفين اثنين: أولهما، إرسال رسالة سياسية للرأي العام وللقوى السياسية، التي تحدثت وبشكل علني في المرحلة الماضية عن ضيم وقع عليها بسبب التدخلات الأمنية بشكل أو بآخر، مفادها (الرسالة) أن الخطأ وإن وقع فهو مردود، ونحن دولة تشخص الأخطاء وتعترف بها بشجاعة وتقوّم المسيرة، وهو ما ميزنا تاريخيا عن باقي دول العرب والإقليم. فقد كنّا وما نزال دولة جمعت بين التقاليد والعروبة والإسلامية والحداثة، وهذا ما سنستمر في تطبيقه منهج بناء أساسيا للدولة الأردنية.
أما الهدف الثاني، فقد جاء رفعا لمعنويات منتسبي الأجهزة الأمنية، وتقديرا لدورهم الذي يقرّ بأهميته وضروراته حتى أكثر من يختلفون معهم. فتوجيهات جلالة الملك للجهاز الأمني الأهم، ورسمه لملامح المرحلة السياسية، وآلية العمل المتوقعة والمطلوبة في هذه المرحلة، لا تعني إلا الاعتزاز بدور هذه الأجهزة الوطني المهم، وضرورة الاستمرار في دعمه.
من خسائرنا السياسية في المرحلة الراهنة أن نقد الأجهزة الأمنية وبعض الرموز الوطنية أصبح أمرا متداولا بعد أن كان من تقاليد العمل السياسي الأردني عدم حدوث ذلك، وإن كان يحدث فبصمت وبكياسة أردنية معهودة. وقد ظهرت هذه الانتقادات بسبب ضعف الحكومات المتعاقبة وعدم قدرتها على تقديم منجز يرتقي إلى مستوى طموح الرأي العام، وبسبب مراحل سابقة شهدت بالفعل تغولا أمنيا غير مقبول وغير مهني، عانى منه كثير من أفراد النخبة السياسية إلا القلة التي كانت من أدوات تلك المرحلة. لكنّ الملفت، والذي يؤشر على تراجع الموضوعية في التحليل وفي قراءة المشهد السياسي، الاصطفافية كما يسميها رئيس الوزراء معروف البخيت، هو أن هذه الانتقادات انتعشت وترعرعت بعد بدء مرحلة تصويب الأوضاع، وعودة الأجهزة الأمنية ما أمكن إلى المربع الأمني صدعا لتوجيهات الملك. وقد شهدنا بالفعل، وباعتراف جل النخبة السياسية، انسحابا من المشهد السياسي الذي كان يدار بصورة أمنية حتى في أدق تفاصيله.
أيا كانت نقاشاتنا حول التدخل الأمني في المشهد السياسي، تبقى قناعة جلالة الملك وقناعة الغالبية العظمى من الأردنيين، في تقديري، أنها خط الدفاع الأساسي عن البلد. نختلف مع الأداء بين مرحلة وأخرى، ولكننا نقدر الدور، ومستعدون للتصويت لجعل أولوية موازنة دولتنا الصرف على ترسيخ وتصليب المهنية للأجهزة الأمنية، بما يجعل منتسبيها قادرين على أن يستمروا بدورهم الأمني المهني المترفع عن السياسة وامتطاءاتها.. أجهزة أمنية للوطن وكل المواطنين، مصدر عز وفخار للأردنيين، ومحل إجماع منهم تماما كما كافة شعوب العالم المتحضر.
mohammed.momani@alghad.jo