أخبار البلد - دروب التسويات في الشرق الأوسط على حساب الوطن الفلسطيني لصالح اليهود من ألفه إلى يائه " 10 "
* تقييم المرحلة - الجزء الثاني
* الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني عبدالحميد الهمشري والمحامي علي أبوحبلة - رئيس مجلة آفاق الفلسطينية / قسم الدراسات الاستراتيجي
ما عاب تفاهمات أوسلو أنها لم توضع فيها النقاط على الحروف ، فلم تنص صراحة على قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بشطريها غزة والضفة والعاصمة الفلسطينية القدس ، حيث أنجزت على عجل دون التنبه لما حصل من تفسير صهيوني للقرار رقم 242 ، فظلت بنود تلك التفاهمات عائمة كل بند منها يحتاج لجهود وسنوات طوال دون الوصول لاتفاق حولها فانقضى 25 عاماً على الاتفاق دون أن يفضي إلى شيء سوى مزيد من الضياع وتشتت الجهد والانقسام الذي يؤرق كل أرجاء الوطن وتوقف التفاوض مع العدو لأنها تحولت لعبثية لم تعد تجدي نفعاً ، ما منح حكومة الاحتلال الفرصة المواتية لاستقطاب المزيد من المستوطنين واغتصاب معظم الأرض .. ولما بدأ اسحق رابين - رئيس الوزراء الصهيوني - الطرف الموقع عن الجانب الصهيوني - بتنفيذ ما جرى التوقيع عليه في التفاهمات ، بتسليم الحكم الذاتي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية جرى اغتياله بتحريض من اليمين الصهيوني المتطرف الذي دانت له الدولة العبرية على الأقل منذ انتفاضة الأقصى التي انتهت كما ذكرت سابقاً في العام 2005 ... ويمكن إجمال سلبيات أوسلو بالآتي :
- رأس الهرم في منظمة التحرير الفلسطينية تسلم رئاسة السلطة، وهذا ما قزمها حيث أن السلطة في الاراضي المحتلة منذ عام 1967تمثل جزءاً من المشكلة الفلسطينية لها مجلسها التشريعي وهو لا يمثل الكل الفلسطيني بل جزء من المجلس الوطني الفلسطيني اذي يمثل كافة مكونات الشعب الفلسطيني من فصائله ومستقليه ومختلف مؤسسات المجتمع المدني وهناك قضايا شائكة غيرها في ثناياها تتمثل بحق عودة اللاجئين لديارهم وبالقدس عاصمة فلسطين والمعابر والحدود.
- أنها لم تنص صراحة على اعتراف صهيوني بقيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران 1967 بموجب التفاهمات كاعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وتركت المسائل الحساسة كقضية القدس وحق العودة وترسيم الحدود للمرحلة النهائية وربطت السلطة اقتصادياً وأمنياً بدولة الاحتلال من خلال ما بات يعرف اتفاق باريس الاقتصادي ، وما أعطي للسلطة هو إدارة الشؤون الحياتية والأمنية في مناطق سيطرتها كسلطة حكم ذاتي ، وأعطت لنفسها " سلطة الاحتلال " الحق بدخول مناطق السلطة في أي وقت تشاء ، وقد رسمت دولة الاحتلال منذ اليوم لتوقيع اتفاق اوسلو لتدجين الشعب الفلسطيني مع الواقع المستجد في مناطق السلطة لتحويله لجسم عازل ، وما زاد في الطين بلة تقسيم الضفة الغربية لثلاثة مناطق "أ" ، " ب " ، و "ج" دون القدس وتشكل الأخيرة " ج" نحو 70% من مساحة الضفة الغربية حيث أخضعتها لسلطتها فشرعت سلطات الاحتلال بالاستيلاء على أراض فيها لإقامة مغتصبات أو مشاريع صهيونية عليها . نحن هنا لسنا بوارد تقريع من أقدم على ذلك أو أننا نشكك بولائهم وتضحياتهم لأجل فلسطين ونعلم أنهم أقدموا على هذه الخطوة في ظل حالة الانهيار العربي والرضوخ الإسلامي للرغبات الأمريكية التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية وعليه نعرض السلبيات لتفاهمات أوسلو التي كان يتوجب تداركها قبل أن تدخل الفأس في الرأس من خلال خبراء ومختصين يشيرون لمكامن الخطر والخلل قبل أن يكون قد فات الفوت وما عاد ينفع الصوت ، فعدونا تفرعن لأنه لم يجد من يردعه في ظل وضع عربي يجري تفجيره بتسلسل متتابع ، ليبقى عاجزاً عن فعل شيء لصالح بني جلدتهم من الجيران وإشعال نيران بين مفاصله ومع جيرانه ومن كل الاتجاهات.. وهذا أدخل قناعة لدى كل فلسطيني أن لا أمل مرجو من قطار التسوية ويرون في ذلك مضيعة للوقت والجهد معاً لأن الوسيط الأمريكي لم يعد يوثق به كونه أصبح الخصم والحكم في آن.
فاللاجئ الفلسطيني أصبح يرى فيما يطلق عليه" الحل العادل والدائم " الدرب الموصل لتصفية قضيته وهدر حقوقه وينظر لمختلف مشاريع التسوية أنها عبثية وكلها ريبة وشكوك كونها تخدم طرفاً واحداً عدوه الصهيوني لا غيره ..
والسؤال الذي يطرح نفسه أليس درباً من الجنون ما يقدم عليه الرئيس ترامب وفريقه في البيت الأبيض ويسعى إليه من تلبية كافة مطالب المستوطنين الصهاينة المغتصبين للأرض الفلسطينية بشطب ملف القدس عن طاولة التفاوض وشطب حق العودة وترسيم الحدود والدعوة لتوطين اللاجئين في دول عربية بعد منحهم جنسيتها مقابل رخاء اقتصادي تباع فلسطين بموجبه ومقدساتها بأموال العرب أنفسهم التي تستغل في أمريكا؟؟
ومن المعيب جداً ان بعض العرب والمسلمين يتماهون مع هذا الحل ويتركون الأردن وفلسطين يعضون على النواجذ ويقارعون وحيدين في سبيل إسقاط هذا المشروع التصفوي؟؟؟؟ فإشكالية التسوية إذن تكمن في أنها تحمل بذور فشلها في ذاتها، وتحمل عناصر تفجيرها في بنودها وستبقى مسألة الأرض وهويتها، ومسألة العودة، ومسألة القدس العناوين البارزة التي لا يمكن لأي كان القفز عنها وستظل الأوضاع تتفجر في المنطقة بين آن وآخر لتؤكد أن لا سلام عادل ما دام الحق الفلسطيني مهدوراً وسيعود الحق لصاحبه إن عاجلاً أم آجلاً شاء من شاء وأبى من أبى.
فانتفاضة الأقصى أفرزت واقعاً جديداً وحَّد مختلف التيارات الفلسطينية حول برنامج المقاومة واكتسب خيار المقاومة في حينه مصداقية وشعبية متزايدة، حيث وضعت الانتفاضة وما تلاها من هبات وإبداعات في أساليب النضال مشاريع التسوية في مهب الريح.
صهيونياً الرغبة في التسوية السلمية ترتكز أساساً على قضية جوهرية لطالما شغلت قادته وهي التحول إلى كيان سياسي "طبيعي" في المنطقة وتحويل النظرة إلى هذا الكيان الغاصب من كيان "سرطاني" خطر يتوجب استئصاله، إلى "ظاهرة صحية" طبيعية. فالجانب الصهيوني يدرك تماماً أن لا مستقبل له في المنطقة دون ذلك.. وأن حالة العداء ما دامت موجودة والمعركة معركة أجيال متواصلة، ، فالظروف السياسية العربية والإسلامية والدولية لن تبقى على حالها إلى الأبد.. وهذا دفع رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ناحوم جولدمان وهي المنظمة التي أنشأت الكيان الصهيوني للقول "لا يوجد لإسرائيل مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب" ، وعلى هذا فإن الجانب الصهيوني بحاجة ماسة إلى تسوية تضمن بقاءه ويضغط الآن وبكل قوة على إدارة ترامب لتحقيق ذلك لتوافر أفضل الظروف التي يمكن فيها عقد تسوية لصالحه لاجتماع العديد من العناصر تساعد في تحقيق ذلك اهمها : قوة الكيان الصهيوني حيث يستطيع مجابهة البلدان العربية مجتمعة ، وقوة النفوذ اليهودي الصهيوني الدولي، وبلوغه درجة كبرى من العلو في الأرض، وتمكنه من الضغط والتأثير على القرار السياسي في الولايات المتحدة ومعظم الدول الكبرى، ووقوف الدولة الأقوى في العالم "الولايات المتحدة" مع هذا الكيان ، وتحالفها الاستراتيجي معه. وحالة ضعف وعجز وانهزام عربي وإسلامي عام. وأخيراً دخول م.ت.ف بقوة في مشروع التسوية، وقبولها بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وحقه في العيش ضمن حدود آمنة على 77% من أرض فلسطين التاريخية. وفي هذا الإطار ينقسم الصهاينة إلى طرفين تجاه التسوية السلمية، وسبل تحقيقها ، طرف يسعى لتحقيق المخطط الصهيوني في هذه المرحلة من خلال الهيمنة الاقتصادية على المنطقة، وتحولها إلى كيان طبيعي من خلال إيجاد أوضاع سياسية وثقافية وإعلامية وأمنية تخدم مثل ذلك التصور. والمنظِّر الرئيسي له شمعون بيريز الذي طرح أفكاره من خلال كتابه "شرق أوسط جديد". وآخر يمجِّد استخدام القوة، ويؤكد على فكرة الحدود التاريخية للكيان الإسرائيلي. ومع ذلك فإن هذا الطرف مستعد للتعاطي مع العمل السياسي وفق ما يخدم المصلحة الإسرائيلية تكتيكياً ، ومع هذا فإنه لا يثق بأن العرب والمسلمين سيتحولون يوماً ما إلى أصدقاء، كما أنه لا يرى في ظلِّ الأوضاع وموازين القوى التي تمثلت لصالحه ما يجبره على تقديم تنازلات للفلسطينيين والعرب. ويرى أن الأفضل هو العمل الحثيث على استجلاب مزيد من اليهود وتهويد للضفة والقطاع، وبناء حقائق على الأرض يستحيل التنازل عنها، وخلال ذلك قد تم تهويد الأرض. حيث يأمل بعض المحسوبين على هذا الطرف بتحقيق تهجير طوعي أو قسري للفلسطينيين من الأرض المحتلة سنة 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة ... وبذلك "يحلّون المشكلة من جذورها" ويجيبون على مسألة تحدي بقاء الدولة اليهودية وفقاً لمفهوم قومية الدولة . وعلى ذلك، فإن إشكالية التسوية عند الصهاينة مرتبطة بعملية المزاوجة بين مثلث الحفاظ على الأمن والحفاظ على الأرض والحفاظ على الهوية اليهودية للدولة. وقد تختلف أضلاع المثلث وزواياه عند جهة دون أخرى بناء على ترتيب الأولويات أو تحليل الأمور. لكن هناك قواسم مشتركة بين كافة الأطراف الصهيونية المختلفة أن لا تنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948 أي نحو 77% من أرض فلسطين ، ولا لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأرض المحتلة عام 1948 ، ورفض التنازل عن السيادة عن القدس الشرقية، وخصوصاً منطقة المسجد الأقصى، باعتبارها "جبل المعبد". وما يهمنا الإشارة إليه هنا الآن هو أن التيار المعادي للتسوية السلمية، هو تيار واسع قوي يمكن أن يتسبب في إسقاط التسوية أو تعطيلها، وهو ليس تياراً معارضاً بعيداً عن السلطة، وإنما هو تيار يشارك في الحكم بل وينفرد به أحياناً عديدة، كما حدث خلال الخمس وعشرين سنة الماضية. وبالتالي فهو ليس مجرد تيار معارض يمكن قمعه وإسكاته كما يحدث في بلادنا العربية. فسلوك المجتمع الصهيوني النفسي العام يتأثر أساساً بقضيتين أو عقدتين اثنتين: الأمن والوضع الاقتصادي وهاتان لهما دورهما الجوهري في صناعة الرأي العام "الإسرائيلي"، وفي صناعة القرار السياسي، وفي سلوك الفرد "الإسرائيلي" العادي. وعادة ما يتعامل المجتمع الصهيوني مع مشروع التسوية حسب ما يمكن أن يوفر له من أمن ومنافع. ولذلك فإنهم عندما تعاملوا مع السلطة الفلسطينية كان كل شيء مرهوناً بما يمكن أن توفر لهم السلطة من أمن ولم يتعاملوا معها بروح الشريك السياسي المكافئ .. إن فكرة المشروع الصهيوني نفسه قائمة على إقناع اليهود بتوفير الأمن لهم ، ولأن "رأس المال جبان" فإن المشاكل الأمنية تؤدي عادة إلى أزمات اقتصادية، وهروب المال وأصحابه طلباً للسلامة. وهذا يُفسر جانباً من الهجرة اليهودية المعاكسة إلى أوروبا وأمريكا بأعداد ضخمة إثر اندلاع انتفاضة الأقصى. وعلى ذلك فإن السلوك "الإسرائيلي" يتجه عادة إلى التشدد والتصلب والقسوة في أثناء الأزمات في سبيل المحافظة على الأمن ، لكنه لا يستطيع تحمُّل مشاكل وتحديات أمنية حقيقية ودائمة، وهذا ما يفسر قسوته في الرد لمحاولة حسم الأمور بسرعة ، لكن بالمقاومة الدائبة والرائدة والمتواصلة تجعل التكاليف "الإسرائيلية" أعلى من المكاسب، وطبيعة المجتمع الصهيوني لا تميل إلى التضحية والموت في سبيل المبادئ، ولا تتحمل الخسائر البشرية كثيراً ، ونقطة الضعف هذه لديهم، هي نقطة القوة لدى المقاوم الفلسطيني. وهي التي أدت في النهاية لانسحاب الكيان الصهيوني من جنوب لبنان دون قيد أو شرط وإعادة انتشار قواته حول قطاع غزة وحصاره.