أطلق بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأميركي كارتر ، وصف " البلقان العالمي الزئبقي المعقد " على منطقة الصين وما حولها ..وذلك في كتابه " الأختيار " الصادر عام 2004 ، متنبئ بأنها سوف تكون منطقة التوتر الكبير في المستقبل ...وقد حاول أن يثبت من خلال كتابه المذكور أن مصلحة الأمن القومي الأمريكي في أن تكون أمريكا قائدة للعالم وليس مهيمنة عليه وأن تشارك حلفائها في القرار ولا تتصرف منفردة ، محذرا من أن الهيمنة مرحلة مؤقتة لابد أن تبرز قوى منافسة مثل الصين..وتحتل مكانة أميركا ، ويعتبر بريجينسكي هو مهندس العلاقات الأمريكية الصينية ، وذو بعد نظر لأهمية العلاقة مع الصين ولذلك بذل جهود كبيرة لوضع أسس العلاقة وإتفاق التطبيع بين البلدين في ديسمبر 1978 ، والذي بدأ تنفيذه مباشرة في يناير 1979 ، ويبدو أن تنبؤات بريجينسكي بدأت بالتحقق..نظرا لسياسات الأدارات الأميريكية المتعاقبة بعد إدارة كارتر، التي لم تولي نفس الأهمية للعلاقة مع الصين حيث كرست وقتها في قضايا عالمية أخرى وعلى رأسها البترول وأمن أسرائيل ...وأتقنت الصين إستثمار هذا الوقت في بناء ثاني أقتصاد في العالم وقوة عسكرية استراتيجية لا يستهان بها ...وتناست الأدارات الأمريكية أن سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن عسكريا بل أقتصاديا ..وهذا الدرس الذي بنت الصين عليه سياستها التي أوصلتها لما هي عليه الأن ، وأستثمرت تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة بأن حصلت على كمية هائلة من أسرارالأبتكارات والأكتشافات الأميركية في كل المجالات ووظفتها في عجلة إقتصادها الذي نهض بطفرة لم يتوقعها أحد . وكان تقرير "شيت ناجل " الوكيل السابق في المخابرات الأميركية ، الذي نشره في عام 2013 يحتوي على أرقام مهولة من الخسائر التي تكبدها الأقتصاد الأميركي جراء التجسس الأقتصادي الصيني على الشركات الأميركية ، حيث ذكر أنه بعد التحقيق من طرف الأف بي أي مع 165 شركة أميركية وجد أن أكثر من نصف هذه الشركات تعرضت للتجسس ومحاولة سرقة الأفكار المبتكرة ، وأن 95% من المشتبه بهم ثبت أنهم يعملون لمصلحة الصين ....وأن نسبة سرقة الملكيات الفكرية تزداد سنويا ب53% ، وتقدر الخسائر الأمريكية السنوية من جراء ذلك بين 225 مليار إلى 600 مليار....وأعطى مثال على شركة من نوع " ناسداك" إسمها " فيرينجو" إكتشفت أن شركة إتصالات صينية عالمية أسمها " زد-تي- أو" أستخدمت إكتشافاتها لعدة سنوات بدون أن تدفع رسوم حقوق الملكية الفكرية .....وأن معظم شركات السيارات والأكترونيات وحتى الدفاع والتصنيع العسكري لم تسلم من سرقة الأفكار والأبتكارات من طرف الصين ... وذكر التقرير السنوي للجنة الملكية الفكرية الأميركي لهذا العام 2017 ، أن التجسس الأقتصادي عبر القرصنة الألكترونية " الهاكرز" يكلف الأقتصاد الأميركي سنويا 400 مليار ، و225 مليار من تزوير الأبتكارات و600 مليار من سرقة الأسرار الصناعية ...واشار التقرير إلى أن 87% من البضائع المزورة في أميركا مصدرها الصين...وأن الأفكار المسروقة والمستخدمة في التصنيع في الصين تعود على الصين بمردود حوالي 85 مليار دولار سنويا ...وان ما يعادل 1% إلى 3% من الدخل القومي الأميركي أي حوالي " من 180 إلى 540 مليار دولار" تضيع على أميركا جراء ذلك لهذا العام 2017...
وقد طبقت جمهورية الصين الشعبية قوانين وسياسات وممارسات واتخذت اجراءات تتعلق بالملكية الفكرية والابتكار والتكنولوجيا التى تشجع على نقل التكنولوجيا الامريكية والملكية الفكرية الى الشركات فى الصين ، وهذا يحد من الصادرات الأمريكية ويحرم المبتكرين الأمريكيين من الحصول على مكافأة عادلة عن ابتكاراتهم ويسهم في عجز الميزان التجاري الأميركي مع الصين لمصلحة الأخيرة ، ويقوض الجهود الرامية إلى تعزيز التصنيع والخدمات والابتكار في الولايات المتحدة..هذا الوضع أدى إلى إضطرار الشركات الأميركية .في الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات الصينية ليتسنى لها الدخول للسوق الصينية و القيام بأعمال تجارية في الصين، مما أدى إلى إكتساب الشركات الصينية الملكية الفكرية الأمريكية، بالتالي جعلت هذه المليارات الضخمة والتي تتسرب للصين من الأقتصاد الأميركي إدارة ترامب منذ بداية ولايتها وضع هذا الملف على رأس أولياتها .، والرئيس ترامب يقف بقوة ضد سرقة الملكية الفكرية الأمريكية، بما في ذلك التكنولوجيات المتصلة بالدفاع. وقد قال أن هذه السرقات لا تضر الشركات الأمريكية فحسب، بل تهدد أمننا الوطني أيضا....والجدير بالذكر أن مستشار ترامب الأقتصادي هو " بيتر نافارو " يعتبر منذ زمن طويل من أكبر منتقدي الممارسات التجارية الصينية وهو مؤلف كتاب " الموت من الصين .." ... .وقد قطع ترامب إجازته في غلف نيوجرسي ليعود للبيت الأبيض لتوقيع مذكرة رئاسية في 14أغسطس 2017 ،موجهة للوكيل التجاري الأميركي " روبرت ليثايزر" تطلب منه التحقيق في القوانين والسياسات والممارسات والأجراءات التجارية مع الصين طبقا للمادة 302 من قانون التجارة لعام 1974، وفحص إذا ما كان يجب التحقيق في أي من تصرفات الصين أو سياساتها أو ممارساتها التي قد تكون غير قانونية وتمييزية والتي قد تلحق الضرر بالملكية الفكرية الأميركية والأبتكار والتكنولوجية وشركات الدفاع .... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل الصين أستعانت أو أستفادت من مساعدة إسرائيلية في هذا المجال ؟ وإذا كان الجواب نعم ، كيف ، وماذا قدمت بالمقابل ؟ هذا ما يمكن إستنباطه من خلال إستقراء علاقة إسرائيل مع الصين ، والوقوف على أهم المفاصل الأساسية التي حددت معالم هذه العلاقة ، ففي ثمانينات القرن الماضي توصل الصينيون إلى قناعة أنه بدون التكنولوجيا الغربية وخاصة الأمريكية لا يمكن لهم الأقلاع إقتصاديا ودفاعيا ، وأيضا أن الوسيلة الكفيلة بتحقيق ذلك هي إسرائيل ..الحليف الموثوق به أمريكيا والمتنفذ على معظم الأسرار التكنلوجية والأقتصادية وأيضا الدفاعية ، وأن المال اليهودي هو المسيطر على معظم التجمعات الصناعية الكبرى في أمريكا ..وأن الطريق لأسرائيل ممهد نظرا للغزل المتكرر من طرف إسرائيل لكسب ود الصين منذ اعلان قيام دولة الصين الشعبية ، حيث اعترفت إسرائيل بدولة الصين الشعبية عام 1950، وكانت الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تعترف بالصين الشعبية ... ، وأيضا صوتت اسرائيل لصالح قبول الصين في الامم المتحدة في اكتوبر 1971.. والغريب أن العرب وقفوا مع الصين الوطنية ( تايوان ) وضد الصين الشعبية ...والحقيقة أن القائمين على المشروع الصهيوني كانوا يمتلكون بعد نظر ثاقب .. وبالرغم من ذلك لم تتقدم الصين بأي خطوة ملموسة نحو إسرائيل متمسكة بمبادئها الثابتة التي تعتبر إسرائيل وليدة الأمبريالية وكيان محتل لفلسطين يجب الوقوف ضده ...وأستمرت بدعم الثورة الفلسطينية ..ولكن بعد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وإندثار المقاطعة العربية لأسرائيل ..وفي نفس الوقت تم توقيع إتفاقية التطبيع بين الصين وأميركا في 1978.، وقناعة الصينيون بحاجتهم للتكنلوجيا الغربية وخاصة الأميركية ، وكذلك المحافظة على علاقات هادئة مع أميركا في ظل مرحلة الأقلاع هذه ، وبالتالي هي بحاجة للوبي الصهيوني في أميركا لتحقيق ذلك ،حيث يقوم بالتحرك فور نشوء الخلافات بين بكين وواشنطن، و " يلملمها وينهيها " بصمت ، ومثالا لذلك أن جورج بوش الابن وضع مسألة احتواء الصين والحدّ من نفوذها المتنامي على رأس اجنداته ، ولهذه الأسباب وغيرها وجدت الصين أن افضل السبل لتحقيق ذلك هو فتح علاقات مع إسرائيل ، بالأضافة لحاجتها للمال اليهودي وأستقطابه لعجلة الأقتصاد الصيني ..وبالتالي بدأ التفكير جديا بقبول التقارب مع إسرائيل والتغاضي عن وقوفها ضد الصين في الحرب الأميركية على كوريا الشمالية والصين عام 1950، وكذلك دعمها بالأسلحة وغيرها لتايوان ، ومساعدتها للهند في الأقلاع النووي وتزويدها بالتكنلوجية الدفاعية بأشكال متعددة ...كل هذا تغاضت عنه الصين لأنها على يقين أن المنفعة المتوقعة سوف تكون أهم من كل ذلك وأهم من المبادئ التي قام عليها الحزب الشيوعي الحاكم...لأن الهدف أسمى من حيث له علاقة بتحول الصين لقوة اقتصادية دفاعية عالمية تنافس الولايات المتحدة أو على الأقل تسلم من شرها ... ،تلقف الأسرائيلون الأشارة الصينية ولم يضيعوا الوقت وفورا وفي عام 1980 بدأت العلاقات الأمنية بين الصين واسرائيل بصفقة عسكرية بين الطرفين، حصلت بموجبها الصين على 54 طائرة مقاتلة اسرائيلية وعدة مئات من دبابات ميركافا، ومدافع ذاتية الحركة وعربات مدرعة وصواريخ جبرائيل المضادة للسفن، بالاضافة إلى مضادات الكترونية متنوعة، قدّرت قيمة الصفقة بحوالى بليون دولار.و في عام 1987 أبرم اتفاق بين البلدين بمليارات الدولارات ، تزوّد اسرائيل بموجبه الصين كميات كبيرة من العتاد الحربي وتقنية صناعة الأسلحة، مقابل حصولها على الفحم والحرير من الصين،. وقد مهدت العلاقات العسكرية والأمنية بين البلدين لتطبيع العلاقات وتبادل التمثيل الدبلوماسي في يناير عام 1992 . .
.وفي أواخر التسعينات أعترضت الولايات المتحدة على صفقة بيع 5 طائرات تجسس بدون طيار هجومية متطورة إسرائيلية للصين ،لأنها تشكل خطرا على أمن أميركا ، واضطرت إسرائيل لألغاءها .وكذلك عام 2002 أكتشفت أميركا من خلال أصتدام أحد طائراتها التجسسية بطائرة عسكرية صينية فوق بحر الصين الجنوبي ، أن لدي الصين صواريخ جو جو "ييتون 2" الأميركية ..وتم " لملمة" الفضيحة داخل أميركا...
بالأضافة لكل ما سبق فقد ساعدت إسرائيل على حصول الصين على أسرار التكنولوجيا المتطورة المبتكرة في أميركا ، وطبقت في الصين بأسماء صينية مختلفة ، ومنها تقنيات محرك البحث جوجل ، الذي أنشات مرادف له في الصين يسمى "بايدو" الذي يستحوذ على حوالي 70% من عمليات البحث في الصين ، وكذلك مرادف صيني لليوتوب يسمى " توداو" ومرادف صيني لتويتر يسمى " ويبو" ومرادف للفاسبوك يسمى " رينرن" ومرادف لويكبيديا " بايكي" ومرادف لأيكونوميست يسمى "كايشين" ومرادف أم أس أن يسمى " سينا " ومرادف وول ديزني يسمى " بياجين بابليشر" ومرادف للميكروسفت يسمى "شينغن تشانزن رفايكتيف ماتيريالز انستتيوت" . وكل ماذكر في هذا المجال يشكل الشجرة التي تخفي الغابة...وأن ما خفي أعظم ...وكلما تظهر فضيحة سرعان ما يتم " لملمتها" من طرف اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. .
أدركت واشنطن متأخرة أن التعاون العسكري والتكنولوجي بين تل أبيب وبكين أصبح يشكل تهديدا لمصالح أميركا ليس في آسيا فقط بل يهدد الهيمنة الأميركية وتربعها على عرش العالم الأقتصادي والعسكري ..إلخ، وكذلك تمكن الصين من التحول إلى قوة عالمية منافسة . ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه ، هل أهداف إسرائيل من إيصال كل هذه الأسرار من حليفتها الكبرى الولايات المتحدة الأميركية ، إلى دولة أقل ما يمكن وصفها بالنسبة لأميركا بأنها خصم ومنافس ، على جميع المستويات ، تهدف من وراءه الدخول للسوق الصيني الكبير وتليين الموقف السياسي الصيني من وجود إسرائيل ، لأنه على المستوى السياسي لم يحصل إنقلاب أو تغيير في الموقف الصيني في موضوع فلسطين ، وكل ما طرأ عليه فقط الأعتراف بوجود أسرائيل ونقل الصين من معسكر أعداء إسرائيل إلى معسكر المحايدين الملتزم بدعم الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية ..هل تعتبر إسرائيل مغامرة بعلاقتها مع أميركا من أجل تحقيق هذان الهدفان من دعمها للصين بالأسرار الأميركية ...أم أنها لا تعتبرها مغامرة مادام هناك لوبي صهيوني قوي في أميركا كفيل بأن يجعل الباطل حقا لأسرائيل ...وبالتالي الهدف أبعد وأسمى من ذلك وتتعامل اسرائيل كعادة القائمين على المشروع الصهيوني بسياسة النفس الطويل.. وبناءا على دراسات وحسابات دقيقة ، بأن الصين هي التي سوف تكون المهيمنة أو القائدة للعالم أقتصاديا وسياسيا ..إلخ وأن نجم أميركا في طريقه للزوال ...كما حصل مع نجم بريطانيا بعيد الحرب العالمية الثانية ، ولهذا رحلت الأموال اليهودية والكفاءات قبل الحرب من بريطانيا وأوروبا إلى الدولة الصاعدة للقمة وهي الولايات المتحدة.. وبالتالي إذا أستمر الحال على ماهو عليه الأن فلا داعي أن نتفاجئ عندما نرى في المستقبل الفيتو الصيني يستخدم ضد قضايانا في الأمم المتحدة .
منير إبراهيم أبو شمالة
باحث في العلاقات الدولية