فيما تغرق المنطقة العربية في أهوالها ومجازرها، وفي إعادة رسم خرائط حدودها وأقاليمها، يغرق اللبنانيون في لعبة لا تقل خطراً، يسمّونها تشريع قانون جديد للانتخابات، ويأملون بأن يعيدوا على أساس هذا القانون إنتاج مجلس نيابي جديد، بعدما تجاوزت ولاية المجلس الحالي مدتها الدستورية بأربع سنوات.
خطر التشريع الجديد يتمثل في أنه يكاد يكون صورة مطابقة لما يجرى في المنطقة من فرز طائفي ومذهبي، حيث تعود كل طائفة الى العزلة داخل منطقتها، مطمئنة الى مصيرها، في مناخ من الخوف المتبادل من الطوائف الأخرى. لكنّ اللبنانيين يقدمون على هذا الفرز بسكاكين دستورية وتشريعية، بدلاً من سكاكين المطابخ وألغام المتفجرات التي تتولى مهمة الفرز الطائفي في مناطق أخرى.
ذلك أن التشريعات التي يتم البحث فيها في لبنان تنطلق أساساً من شعار بات لازمة كل حديث انتخابي، وهو تصحيح التمثيل الطائفي في المجلس النيابي. هذا الشعار رفعته خصوصاً أحزاب ذات هوية مسيحية، لتقصد به ضرورة تمثيل النواب المسيحيين لطائفتهم. وبدأ الأمر بفضيحة ما سمي «القانون الأرثوذكسي»، الذي كان يقضي بقيام كل طائفة بانتخاب نوابها، قبل أن يتم دفن هذا القانون، من دون أسف عليه، وعلى أمل بأن لا يتم إيقاظه من القبر مرة جديدة.
كان يُفترض أن «تصحيح» التمثيل المسيحي حصل فعلاً من خلال التزام أكثرية اللبنانيين، الذين بات المسلمون أكثرية بينهم بحكم الواقع الديموغرافي، بالحفاظ على المناصفة في مقاعد المجلس النيابي بين المسيحيين والمسلمين، كما تم تثبيتها في اتفاق الطائف. كما كان يفترض أيضاً أن تصحيح هذا التمثيل تحقق بانتخاب الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية، كونه يمثّل، كما يقول مؤيدوه، القاعدة المسيحية الأقوى، بعد تحالفه مع «القوات اللبنانية». غير أن هاجس المسيحيين من عدم تمثيل نوابهم لـ «شعبهم» استمر، على رغم كل ذلك، وكان سببه الأساسي في نظر من يسوّقون لهذا الهاجس ويتاجرون به، وخصوصاً في قيادة «التيار الوطني الحر» التي انتقلت من عون الى صهره الوزير جبران باسيل، أن هناك نواباً مسيحيين يتم انتخابهم في دوائر أكثرية الناخبين فيها من المسلمين، وهو ما «ينتقص» من صحة تمثيل هؤلاء النواب لطائفتهم، طبعاً في نظر أولئك الذين يشكل الحساب الطائفي البعد الوحيد في خياراتهم الوطنية.
وبصرف النظر عن القاعدة الثابتة في الدستور اللبناني، وهي أن النائب يمثل الشعب اللبناني ولا يمثل طائفة بعينها، على رغم انتمائه اليها، فإن كون عدد من النواب المسيحيين يتم انتخابهم من دوائر ذات أكثرية مسلمة هو أمر يعود أساساً الى فقدان التوازن الديموغرافي بين الفريقين، بحيث بات اللبنانيون يتوزعون اليوم بين ما يقارب 65 في المئة للمسلمين و35 في المئة للمسيحيين، كما هو متداول، على رغم عدم وجود إحصاءات رسمية تؤكد ذلك، نتيجة الخوف من انعكاسات أي إحصاء رسمي على التوازن الطائفي الهش، والذي يشكل وقوداً قابلاً للاشتعال في أي وقت.
وبفقدان هذا التوازن، يصبح طبيعياً أن يحصل الفرق بين تمثيل النواب المسيحيين لطائفتهم وتمثيل المسلمين. فكون المسيحيين لا يشكلون نصف عدد اللبنانيين يفرض بالضرورة أن يتم اختيار بعض نوابهم في دوائر تضم أكثرية ناخبة من المسلمين. ومن هنا جاءت إحصاءات الأحزاب الطائفية المسيحية التي تقول إن هناك 23 نائباً مسيحياً (من أصل 64) يتم انتخابهم من غير المسيحيين.
لم تكن مسألة صحة التمثيل هاجساً أو مشكلة في أي وقت، قبل الحرب الأهلية التي فجرت العصبيات والغرائز الطائفية التي ما زالت تتحكم بالعمل السياسي في لبنان. وإذا كان للمسيحيين في لبنان أن يفاخروا بشيء، فإن هذا لم يكن في السابق ولن يكون اليوم أو غداً بصحة تمثيل نوابهم أو بوفرة أعدادهم، وإنما بقدرتهم على الانفتاح والتواصل مع الطوائف الأخرى ومع جيرانهم العرب، وبدورهم في النهضة العربية التي كانوا روادها. لكن ذلك الزمن كان له رجاله، قبل أن يهوي تمثيل المسيحيين الى الحضيض مثلما هو اليوم.