في ظل الأوضاع المتردية التي وصلت إليها منظومة العيش المشترك المبني على احترام الإنسان لأخيه الإنسان، وتجاهل لحقوق الأقليات العرقية والدينية من قبل الأكثرية، وفي ضوء انقسام العالم نفسيا واجتماعيا وثقافيا إلى مجموعات خلافية، وفي ظل ظهور ظاهرة التطرف الفكري والعقائدي وما آلت إليه الأمور من قتل وتعذيب وتشريد وتدمير للمقدرات الإنسانية التي بنيت منذ آلاف السنين، وكذلك الحروب التي ترجع في كثير من أسبابها إلى الشعور بغياب العدالة المجتمعية والتفرقة العنصرية أو الطائفية أو الفكرية؛ والأهم من ذلك تلك التفجيرات التي استهدفت الأقباط في عيد أحد الشعانين ومن ثم بعدها استهداف لكنيسة سانت كاترين التي يؤمها السياح من مختلف أنحاء العالم في سيناء مصر وقبل ذلك ليس بالكثير استهداف الكثير من الكنائس بمناطق متفرقة من مصر؛ تأتي زيارة قداسة البابا لمنطقة هامة في الوطن العربي. وحيث تعتبر مصر العمود الفقري للأمة العربية والإسلامية، فقد لعبت مصر عبر التاريخ دورا مهما في التاريخ الإنساني كلاعب مهم ومؤثر في العلاقات الدولية والإنسانية وفيها أكبر تجمع بشري في الوطن العربي.
هذه الزيارة لها مدلولات كبيرة وهامه مبنية على أرضية خصبة لتنمو فيها أساسيات السلام المنشود ومنها:-
-أن هذه الزيارة تأتي احتفالا بمرور سبعين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر في زمن الملك فاروق عام 1947 وبين دولة الفاتيكان.
-هذه الزيارة جاءت بدعوة من فضيلة شيخ الأزهر الشيخ احمد الطيب الذي ينظم مؤتمرا للسلام تحت عنوان " مؤتمر السلام العالمي".
-يلتقي قداسة البابا فرنسيس بكل الأقطاب المؤثرة سياسيا ودينيا بدءا من رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي إلى فضيلة شيخ الأزهر احمد الطيب ومن ثم قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الأرثوذكس الأقباط
-إن الظروف القاسية التي تعيشها مصر تعطي لهذه الزيارة قيمة مضافة في الحفاظ على الأمن والاستقرار والتعاون والتنسيق لبناء أسس التعاون والتعايش بين مكونات المجتمع الواحد.
-إن رفض قداسة البابا للركوب في سيارة مصفحة ما هو إلا دلالة على أنه لا يخاف التهديدات أو الموت من أجل رسالته شأنه في ذلك شأن بقية الباباوات الذين اعتادوا على هذا النهج فليس لإنسان الحق في إنهاء حياة إنسان آخر حيث أن ذلك مخطط إلهي بالغ الوضوح "الله هو الذي ينهي حياة بني البشر وفق مخطط إلهي، وكذلك الأمر فهو دلالة للعالم على أن مصر واحة سلام وأمن واستقرار فلا خوف من القدوم إليها للسياحة مثلا وهذا يعطي لمصر بعدا مفيدا للسياحة التي تأثرت كثيرا حيث فقدت مصر أهم مصدر من مصادر دخلها نظرا للأحوال السياسية التي مرت بها منذ بضعة سنين عقب الإطاحة بالرئيس حسني مبارك وما تلى ذلك من أحداث.
-كذلك الأمر تأتي هذه الزيارة للوقوف إلى جانب المسيحيين في مصر والعالم العربي لدعمهم وتشجيعهم على انتهاج منهج المسامحة والسلام والمحبة التي أوصى بها السيد المسيح وأن لا يحمل منهم أية ضغينة أو أحقاد فكل ذلك ضد مبدأ المسيحية المبني على روح المحبة وعدم الانجرار إلى مربع القتل والعنف كما يريد المتطرفون، ليبقى المسيحيون في الشرق ملح الأرض، ونور العالم.
ولهذا تكون الزيارة قد بنت جسورا من الثقة والتعاون المبني على المسامحة والسلام بين مكونات المجتمع المصري الواحد في محاربة التطرف والعنف والكراهية، بين المكونات التالية:-
-بين دول العالم وبين العالم العربي والإسلامي: وحيث أن مصر قلب العالم العربي الإسلامي كما أشرنا، لإقامة علاقات طيبة بين هاتين الكتلتين الأكبر في العالم وحوار الأديان ونبذ العنف وتبرئة الدين الإسلامي من تهمة التطرف والإرهاب كما جاء على لسان قداسة البابا الذي رفض المساواة بين الإسلام والإرهاب ، معتبرا أن ما يحدث من ما هو إلا جريمة بحق الإنسانية جميعا. وقد أنهت هذه الزيارة فترة القطيعة بين الفاتيكان والأزهر الشريف في أعقاب تصريح للبابا بندكتس الذي ربط بين ظاهرة التطرف والعنف وبين الإسلام.
-بين قداسة البابا والرئيس عبد الفتاح السيسي: حيث أن قداسة البابا قد أشار ولمح إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان التي اتهمت مصر من قبل وسائل إعلام وأنظمة عالمية بأنها قد انتهكت حقوق الإنسان بغض النظر عن مدى صحة هذا الكلام من عدمه
-بين قداسة البابا فرنسيس وقداسة البابا تواضروس: الاعتراف بسر المعمودية لأي كان منهما وهذه سابقة تاريخية في تاريخ الكنيسة والتي تعترف الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بمعمودية إفرادهما وهذا تقارب لا يجب أن نغفله بين الطرفين حيث أن لذلك تداعيات ايجابية كبيرة على الطرفين، وكذلك ركز هذا اللقاء بين العملاقين على أهمية الأخوة والتعاون بين الطوائف
المهم في الموضوع أن نفهم جميعا مغزى الزيارة الحقيقي بين بناء الجسور بين الطوائف والديانات والثقافات المختلفة فالاختلاف لا يعني الخلاف وإنما أن نفهم ذلك في إطار التنوع، والتنوع يغني الحضارات بالفكر والعمل والبناء ولا يعمل على القتل والهدم والتدمير، والتاريخ يشهد بأن الصراعات لا تبني الأمم ولا تشيد الحضارات بل تهدم كل ركائز الدول والحضارات وتؤدي إلى تراجع الإنسانية، ولهذا يطلب إلى كل منا أن ينظر إلى الآخر باحترام ومحبة ويبني مجتمعه يدا بيد لنصل إلى مصاف الأمم المحترمة.