وهل من نهوض بعد هذه الكبوات المتتالية التي لحقت الأمة العربية؟ التي فقدت ذاتها، وخرجت عن أصالتها التي تقودها إلى مستقبل مشرق، لأن العقل العربي تصحر تصحراً كبيراً بسبب التلوث الفكري الذي هبت رياحه على الأمة من كل الجهات، دون أن تكون الأمة محصنة بقيم الإسلام وأخلاقه.
إن ما حصل للأمة العربية في القرن العشرين وما زال سببه فقدان القيم، التي تعد أساساً قوياً، وركيزة متينة في بناء النهضة وتشييد الحضارة، واستمرار الحياة، والقيم التي فقدت؛ هي قيم الأخلاق التي تهذب الإنسان وتحضره وتجعل منه قوة دافعة للبناء والنهوض، والقيم الأخلاقية لا تعمل وحدها بل لا بد من قوانين منظمة للحياة والمجتمع ويكون إيقاعها قوياً على الناس، لأن النفس البشرية ميالة إلى الهوى والشهوات، وهذا وضع يحتم نشر قيم الأخلاق وبيان مزاياها في التحضر وكذلك جعل القانون سائداً على جميع الناس دون محاباة لأحد على أحد، وأفضل قانون هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم القائل (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)؟!
من القيم التي فقدناها، الصدق، الذي يكاد ينعدم عند الأفراد والجماعات والأحزاب والهيئات الرسمية والشعبية هذه ظاهرة مؤلمة، تجعل الثقة بين مقومات المجتمع معدومة، وإذا فقدت الثقة فقد حل الدمار والخراب واستبيحت كل المحرمات، وكل الفضائل.
والصدق في لسان العرب معناه رجل صدق نقيض رجل سوء، والصدق منجاة من الشر، والصدق الشجاعة والصلابة، وإذا صلبت وصدقت، انهزم عنك من واجهته بالصدق، وإن ضعفت قوي عليك واستمكن منك، وجاء في القاموس المحيط لسان العرب، رجل صدق وامرأة صدق يمتاز بالصلابة والقوة وإثبات الوجود.
أما الكذب، فهو ضد الصدق، وهو في حقيقته ضد الحقيقة والواقع في القول والعمل، يقال صدق في القتال إذا بذل فيه الجد والجهد، وإذا جبن وتراجع كذب، ويقال ليس لكذوب رأي أي لا يعتد بما يقوله ويفعله.
وباب الكذب في لسان العرب القاموس المحيط مليء بالأمثال التي توضح أن الكذاب ساقط الهمة متلون ليس عنده أخلاق وغير قادر على كسب ثقة الناس واحترامهم، لأنه يلوي لسانه بكل ما يعيب من قول أو فعل فاسد.
من محاسن الصدق كما جاء في كتاب الجاحظ المحاسن والأضداد، ما قاله الحكماء، عليك بالصدق فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع أعز من الصدق لأنه عز وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذل وإن كان فيه ما تحب، هذه العبارة تدل أن اللسان الصادق أقوى من السيف القاطع لأن الإنسان الذي يقول كلمة الحق، يكون أقوى ألف ألف مرة من الطغاة الذين يحيطون أنفسهم بالكذابين والمنافقين لأن الصدق ميزان الله عز وجل الذي يدور عليه العدل، والكذب مكيال الشيطان الذي يدورعليه الجور والطمع والجشع وكل موبقات الحياة.
في كتاب مكارم الأخلاق لأبي تيمية يرى أن الصادق قوي في إرادته، وقصده، وطلبه، جاد فيه عمله، إذا أخبر عن شيء وقع أمامه يذكره كما وقع دون زيادة أو نقصان، وإذا تكلم ينطق بالحقيقة لا يداهن ولا يماري.
والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الكذاب في حديثه وفعله، هذه العبارات تعطى صورة للمجتمع الذي تختفي، فيه محاسن الصدق الذي يولد العمل النافع المنتج لكل الناس دون تمييز بين أحد وأحد، وتجعل المجتمع يقترب من الفضيلة، ويبتعد عن الغش والخداع، ويكون قوياً بإرادته صادماً للمنافقين والكاذبين الذين يلوثون الحياة بكذبهم ونفاقهم، ويساهمون باشعال نار الفتنة بين طوائف المجتمع، من أجل استمرار بقائهم، وزيادة منافعهم من المال الحرام والجاه الفارغ.
وجاء في أمثال العرب، أن الكذاب لص لأن اللصوص يسرقون المال، والكذاب يسرق العقل، وتقول العرب أيضاً فلان أكذب من السراب ومن سحاب تموز، والكذاب لا أحد يحترمه ويقدره، وإن كان ماله أكثر من مال قارون، وسلطانه أقوى من سلطان إمبراطور.
وقال أديب عربي قديم ما من مضغة "قطعة لحم” أحب إلى الله عز وجل من اللسان إذا كان صادقاً، ولا من مضغه أبغض إلى الله عز وجل من اللسان إذا كان كذوباً؟!
إن الألسنة الصادقة في المجتمعات العربية، أصبحت أقل من القليل، لأنها أصبحت تلتوي بكل أنواع النفاق والخداع والغش والنميمة، بل إن وسائل الأعلام، أصبحت تمجد الكذب والنفاق، وهذا نشاهده في التلفاز، ونسمعه في الإذاعة، ونقرأه في الصحف والمجلات.
حقيقة لا بد ان تقال أن الصدق من القيم التي تكاد تختفي من مجتمعاتنا، وإذا انعدم الصدق، تنعدم الثقة بين كل مكونات المجتمع مع بعضها البعض، وتنعدم الثقة بين الحكومة والشعب”، والثقة هي مقياس كل تقدم، لأن المجتمع الحضاري هو الذي تسود فيه قيم الأخلاق أولها الصدق في القول والعمل، والمجتمع المتخلف الذي تسود مجالس النفاق والكذب في القول والعمل والأفعال الفاسدة.