نشأ الشعر العربي المعاصر في ظل أجواء حزينة وكئيبة، فإذا نظرنا إلى بداياته نراه كلّه يتحدث عن موضوعات اجتماعيّة حزينة بحتة، وتتلخّص أهمّ موضوعاته: في أنّه يكشف عن هذا المجتمع وما يحويه من زيف، وأماكن التخلّف، والجوع، والمرض، وهدفه دفع الناس إلى تغيير الحالة السيئة التي يعايشونها إلى حالةٍ أفضل؛ لأنّه قرر حمل لواء الدفاع عن هذا العالم، والدفاع عن الشعب الذي يعاني من الآلام، ويكابد كلّ المستحيلات من أجل أن يحصل على لقمة عيشه بكرامة، وحرية، فقصيدة أشجان المساء تعبر عن الحزن في صور متعددة تقول :
تئن
خطاي تحملني إلى بحر
بغير سواحل
ويهب في النجوى رماد
كي يحاصر ما تبقى من دمي .
وكمية الحزن في هذه القصيدة كبيرة وواضحة ، فالطفلة تشكو الضياع ، والطفلة كلما حاولت أن ترسم أمنياتها فريح الشرق تسرق ريشتها :
والحقيقة طفلة
تشكو الضياع
من كل لون أمنياتي
كم أحاول رسمها
مخضرة
فإذا بريح الشرق تسرق ريشتي .
وتقول لي:
لا لون للأحلام في هذا الزمان .
لقد استقامت نغمة الحزن في القصيدة حتى صارت ملفتة للنظر ، بل يمكن أن يقال إن الحزن موضوعها الرئيس ، وقد استفاضت ظاهرة الحزن في جلّ قصائد العصر الحديث وهذه النغمة أثارت كثيرا من المناقشات والجدل في المنتديات الأدبية الخاصة والعامة حول سبب تجذر هذه الظاهرة في القصيدة العربية المعاصرة، وربما تكمن علة هاته الظاهرة في طبيعة الحياة ذاتها، وفي ظروف العصر المرتهن بالفجائع الإنسانية، فبالقدر الذي قدم فيه (العقل) للبشرية من عطاءات وخدمات تفوق الوصف، ظل الوجه الآخر ينغل عميقا ممزقا أوتار القلب وراسما قتامته على أفق الحياة، فلا تجد الروح برزخها الآمن، حينئذ تلوذ بوجعها المكتوب بجمر الكلمات... من هنا تقول مصاروة اللائذة بحزنها :
تركت كأسي
في موائد ذكرياتي
وارتحلت
ولم يزل يغتالني ظمأ
إلى تلك القلاع
شجن على الأسوار يجتاح الحكاية
والسواد يلف بالوادي
................
.................
تضمنت هذه القصيدة أسئلة وجودية مقلقة، لعل أبرز ما يميزها حالة التبرم المتسمة بظاهرة الحزن، وهي ظاهرة إنسانية خالصة عمقتها ظروف الحياة المعاصرة، فباتت هذه الظاهرة علامة فارقة لشعر الحداثة، وقد تعاملت معها مصاروة تعاملا وجوديا خالصا انطلاقا من وعيها الشعري ومن إحساسها المرهف بالوجع الإنساني.
لقد انسكب الحزن في داخل مصاروة كانسكاب السائل في الدورق الشفيف، فحينما نقرأ قصيدتها وجلّ شعرها نبصر هذا الحزن في داخلها المرسوم عبر الكلمات، وكأننا أمام مواجهة بين الذات والموضوع، بل أمام تفاعل خلاق، تفاعل تبادل فيه الطرفان الأدوار، حيث يجسد الحزن في هاته الحالة نوعا من مواجهة الذات، وهو في الآن ذاته موقف شعري من الوجود والموجودات، يفعل عندما تبدو حدة المفارقات بين ما تتغيا الذات وما تصل إليه.
إن العين المدربة تلاحظ في شعرها إبداعا مفعما بالتجارب الشعورية المليئة بالحزن الشفيف الذي جاء على شكل صور متراكمة متضامة تجلت من خلال بناء اللغة الشعرية: مفردة وجملة وسياقا، كما تجلت عبر الأساليب البلاغية، و الإيقاع الشعري بنوعيه الداخلي والخارجي... فمن يقرأ شعرها يحس بإيقاع الكلمات وكأنه يستمع إلى أزيز سهم يخترق الفضاء فيمزق الصمت ليترك صدى في دواخل الذات المتلقية فيحرك المشاعر ويهزها هزا عنيفا يجعل المتلقي وكأنه يعيش حالة الحزن هذه.
من هنا كانت كلماتها نموذجا إنسانيا حافلا بالوجع الشعري الذي لا يقدر على تلمس أبعاده وتجسيدها على الورق إلا من يملك قدرة إبداعية متميزة، وكان ذلك كله متمثلا في إنسانة وشاعرة تظل في كل مرة يقترب منها القارئ متمنعة عن الإفصاح، فيشعر القارئ ببعده لأنه يعيش في عالم شعري يظل رافلا بغموضه، مطالبا بالكشف والإنصات، ولعل قارئا آخر أو قراء آخرين يسعفهم القدر ليتمكنوا من جس دواخل شعرها وإظهار معالم الحزن فيه.
وقد كثر في قصيدة أشجان المساء اعتمادها على الصورة الشعرية من كناية وتشبيه واستعارة ، ومجاز ورمز وتعبير حقيقي، وقد كانت الصورة في القصيدة مجالا لتأدية المعنى ، وليس عنصر زخرف أو تزيين .
ومن يقرأ القصيدة يجد أن الصورة الفنية فيها ، إما جزئية معتمدة على المفهوم التقليدي للصورة الشعرية القديمة من تشبيه واستعارة ، أو كناية، وإما صورة كلية ، ترسم الشاعرة من خلالها صورة مركبة ، تتضافر فيها كل العناصر الجزئية لتقديم صورة شعرية مشهدية كلية.وأترك للقارئ هذا المشهد الجميل :
رسمت في رمل الحياة
قصور عشقي
والنوارس شاركتني يتمها
والماء في عين السنونو كان بللني
ولي في الموج ذاكرة
تسافر في تفاصيلي
على كل الفصول .
وهذه الصورة كما تحسها معي ، تؤدي مشهدا شعريا متكاملا ، يعتمد على الطبيعة كأحد مرتكزات الصورة الشعرية، بألوانها المختلفة ؛ لتأكيد تجذر الإنسان بأرضه ، وتوحده بعناصرها المميزة.
ونستطيع أن نلحظ ببساطة التمايز في اللغة الشعرية عن مثيلاتها من خلال بعض الحروف ، ومن خلال اللفظة الواحدة ومن خلال التركيب أيضاً وهذه الادوات ككل (الحرف واللفظة والتركيب) تتناغم مع البناء الكلي للخطاب الشعري، فالشاعر المبدع يستطيع من خلال لغته القدرة على العفوية والقوة في النظم مما يجعله متفرداً عمن سواه. وإذا اردنا الدخول في جو الحداثة والشعر العربي الحديث على وجه الخصوص لوجدنا أراءاً نقدية خاصة حول اللغة الشعرية وقد تكلم قسم كبير من شعراء العصر الحديث عن اللغة الشعرية المعاصرة مما جعل كل شاعر يتفرد بلغة شعرية خاصة فالقارئ المتمرس لو قرأ قصيدة في الشعر العربي الحديث لأدرك وعلى وجه السرعة أن القصيدة للشاعر الفلاني أو لغيره من الشعراء.
الكلمة الشعرية ليست مجموعة حروف مجموعة مع بعضها البعض لتشكل كلمة ؛ إنها مجموعة من الأرواح المتشابكة تبعث فينا الروح و الثورة .
أن الكلمة الشعرية كالينابيع التي تتفجر في سطح الارض ، تتشكل و تتخمر عبر سنين طويلة ثم تشق وجودها الى حيز الوجود .
والشاعرة مصاروة التي تقف أمام ذاتها، وتحاول الكشف عن القيم النبيلة في الانسان باستخدام لغة لها اتجاهان: واحد للاشارة، والآخر للتعبير عن انفعالها بما حولها.
وإذا صحت المقابلة، فإننا أمام صورة فنية تحتم الالتفات إليها والتمعن فيها، كمثل ما تحتم ذلك الأسئلة في الرياضيات والفيزياء وسواهما من العلوم .
بمعنى آخر، فإنه يجب علينا إذا ما رغبنا في تحليل هذه القصيدة، تقديم تحليل شامل يوجب البحث عن الانسجام بين أجزائها جميعها، دلاليا وتركيبيا وجماليا، وذلك لاكتشاف المعنى الحقيقي ومعرفة آلية تمظهره في اللغة الشعرية:
وما اقتنعت
رسمت خارطتي بلون الأقحوان
ولذت بالأشواق
حتى لا تكون مياه أمنيتي
سرابا
ما أمر العشق في هذي الدروب
القاحلات .
ومما يجب علينا ونحن نقرأ القصيدة ونحاول فهمها والكشف عن أبعادها الجمالية، الانتباه إلى أن مصاروة تستخدم ضمير المتكلم. ولعلها في اختيار هذا الضمير دون سواه، إنما أراد اختصار المسافة المعنوية التي يمكن أن تفصله عن المتلقي.
وعلينا أيضا الانتباه للمجازات في صياغاتها، وللصور الاستعارية’:
( يستعير مواجعي الكبرى لينمو )
(واستحال الموج في عيني )
( في موائد ذكرياتي )
.......................
......................
ومن المهم القول بأن عنوان القصيدة، ومثله عنوانات لقصائد أخرى، جميعها تشير إلى أن الشاعرة لم ترغب في تقديم اعترافات مجردة عما حوله من الواقع، وإنما هي مما يدل على أن مصاروة في صراع متواصل مع الوسط الاجتماعي والسياسي والانساني، وكل هذا تعبير عن حرارة التجربة وصدقها :
نسجت ثوبي من خيوط كآبتي
ومضيت لا ألوي على المعنى
لأن الحزن خبز العاشقين.
عباس مجاهد فلسطين