انتصر النضال لأجل الناس الذين يسبحون في فرنسا، وبقي علينا أن نناضل لأجل القتلى واللاجئين والجائعين والمهجرين. وفي بلادنا، لأجل العدالة والتعليم وتحسين حياة الناس؛ فليس متوقعا من الآخرين أن يعملوا لأجلنا، وليس مفاجئا أن يعمل الآخرون ضدنا. لكن المحير كيف نعمل ضد أنفسنا؟ كيف يشغلنا الآخر بما ليس أولوياتنا؟ أسوأ ما في ذلك أننا لا نعرف من "نحن"، ومن "الآخر"، أو بعبارة تطبيقية: من العدو ومن الصديق. تقوم الأمم والسياسات على هذا السؤال الذي يبدو بسيطا وبدهيا، وتتقدم أو تفشل بمدى قدرتها على تحديد الإجابة، ففي هذه الإجابة تتشكل الهويات والأفكار الجامعة.
ثمة نزعة إلى الانشغال بقضايا ليست ذات أولوية أو أهمية، أو هي ليست سوى جزء يسير (يفترض) من برامجنا وهمومنا لأجل التقدم ومواجهة الفشل. ويبدو أن هذه النزعة إلى الهروب أو الانشغال بما ليس مهماً، تتفاعل مع بيئة مشجعة على تعطيل الجدل الحقيقي حول ما نريده وما نحتاج إليه، وما لا نحتاج إليه. وفي ذلك يسهل جدا أن يستغرق الفكر والتأييد والمعارضة، ثم الانقسام، في قضايا غير مؤثرة جوهريا، أو هي في أحسن الأحوال لا تضر ولا تنفع. ويكاد تحليل الظاهرة يرجّح أنها جدالات مفتعلة، تشبه الحملات الدعائية والإعلانية، كما لو أنه يجري إشغالنا بقصص لا تسمن ولا تغني من جوع، مثلما تشغلنا وسائل الإعلام في حملاتها الإعلانية بالشامبو وسواه!
وأسوأ من ذلك هو الدمج بين المعتقدات والمواقف الفكرية والسياسية، وبين الهوية الشخصية أو الجمعية، فيتحول الجدل والخلاف حول مسألة دينية أو سياسية أو خارجية بعيدة، إلى حرب أهلية بين المحتلين والمحتلَين، الخائنين والمقاومين الأبطال، المؤمنين والكفار؛ وتتحول قضية يفترض أنها فردية تخص الإنسان وحده، أو قضية هامشية تخص فئة محدودة أو معزولة من الناس، أو قضية خارجية بعيدة تؤثر بنسبة محدودة وقد لا تؤثر شيئا في مكاسبنا ومخاسرنا الوطنية أو الاقتصادية، إلى معركة مصيرية تتعلق بوجودنا وبأوطاننا، وكأننا في مواجهة المحتلين والغزاة.
ومن العجيب جدا أن الإرهاب والتطرف لا يكاد يوجد لهما ذكر أو وجود في الجدل الانتخابي أو في الحملات والبرامج واليافطات الانتخابية؛ ما يعني أنها قضية لا تشغل الناخبين والمرشحين، أو لا تجذب أصواتا مؤيدة، بل ربما تؤدي إلى فقدان الأصوات والمؤيدين. وما يعني أيضا أن كل ما بذل لأجل مواجهة التطرف والإرهاب من عمل سياسي وإعلامي وإرشادي، وكذا المؤسسات والهيئات والوزارات والمؤتمرات والورش والكتابات والأغاني والهتافات، لم تؤثر شيئا في اتجاهات وأفكار المواطنين. والأسوأ من ذلك كله أن العمليات الإرهابية التي قتلت مواطنين ومقيمين وروعت الآمنين والمدنيين لم تؤثر في تشكيل الأفكار والبرامج والاتجاهات.
لا نحتاج سوى 45 ثانية لندرك ببداهة أن ما يشغلنا ويؤثر في حياتنا ويستهلك وقتنا ومواردنا، هو العدل أولا؛ ثم التعليم والصحة والسكن والغذاء والعمل.. وفي ذلك، وببساطة، نعرف من نحن وماذا نريد، ومن العدو ومن الصديق.
"شو طابخين اليوم؟"
أخبار البلد -