تمكّن لباس البحر «البوركيني» من نقل هواجس «الإسلاموفوبيا» إلى الشواطئ والمسابح الأوروبية والغربية، في تصعيد جديد للمخاوف المتصاعدة لدى بعض البلدان، وفي صفة خاصة فرنسا التي تعاملت بـ»عنف» مع خيارات نساء شئن أن يرتدين هذا الزيّ من دون سواه. ولعلّ الانقسام الأوروبيّ ومواقف كندا وسواها من بلدان في شأن «البوركيني» تعكس اضطراب المزاج العلمانيّ في العالم المتمدّن، فالفرنسيون، ومعهم البلجيكيون، يعملون على الحفاظ على قيم العلمانية الفرنسية التي تحظّر المظاهر الدينية، لأنها تمزّق الروح الوطنية، وتغذّي نزعات العزلة والانسلاخ، في حين أنّ إيطاليا ترى أنّ من حق المسلمين أن يختاروا أزياءهم من دون إكراه، وهذا ما ينص عليه دستور إيطاليا التي يعيش فيها زهاء مليون ونصف مليون مسلم.
وقد امتدح رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، الحريات الدينية التي تضمن حق ارتداء «البوركيني»، معتبراً أنها «رمز لقبول الآخر في مجتمع منفتح».
وما تفصح عنه ردود الفعل المتناقضة في خصوص «لباس البحر الإسلامي»، يمثّل حلقة من مسلسل الريبة التي تهيمن على جزء كبير من العقل الأوروبي الذي يتعامل ببراغماتية تجاه مفهوم القيم العلمانية، وهو مفهوم مطاط كقماش «البوركيني» نفسه!
فكيف أمكن العلمانية أن تشتمل في الوقت ذاته على خيار الإنسان في أن يقرّر ما يرتديه، وأن يمارس شعائره الدينية من دون الاعتداء على الآخرين واستفزازهم، وفي المقابل أن يكون هذا الخيار مجرَّماً لأنه يشجع على العزلة، ويكشف الدوافع السياسية الخفية، ويهدّم فكرة الوحدة الوطنية. وما المبررات التي تقف وراء النبرة الغاضبة لرئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، الذي دعم رؤساء بلديات فرنسية حظروا «البوركيني»؟
فالس قال في مقابلة صحافية: «يجب أن تكون الشواطئ، كما كل المساحات العامة، خالية من المظاهر الدينية، والبوركيني ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع، مبني خصوصاً على استعباد المرأة، ووراءه فكرة أنّ النساء فاسقات، ويجب أن يكنّ مغطيات بالكامل، وهذا لا يتوافق مع قيم فرنسا والجمهورية، ويجب أن تدافع الجمهورية عن نفسها في مواجهة هذه الاستفزازات».
بيْد أنّ الأكثر استفزازاً هو إجبار الشرطة الفرنسية امرأةً مسلمة تجلس على شاطئ «نيس»، على خلع «البوركيني» وإصدار غرامة مالية بحقها.
المرأة واسمها الأول سيام، قالت كما نقلت «الغارديان»: «كنت جالسة على الشاطئ مع عائلتي، وكنت أرتدي الحجاب الكلاسيكي، ولم تكن لدي نية للسباحة». وأضافت: «الناس من حولي راحوا يصرخون ويصفقون وطلبوا مني العودة إلى وطني، فيما كانت ابنتي تبكي».
وستكون هذه الحادثة وما سبقها من جدل حول «البوركيني»، فرصة ذهبية لتأجيج الغضب بين مواطني الجمهورية. ففي الوقت الذي تحتاج فرنسا وبقية دول أوروبا إلى إطفاء نيران الكراهية بين مكونات الأسرة الأوروبية، ومحاصرة أفكار التطرف ومقاومتها، يأتي من يصب الزيت فوق فوهة اللهب، معمّقاً الصدام ورافعاً إياه إلى أقصى درجات التوتر.
العلمانية ليست ديناً، ولا نصاً مقدّساً حتى يتم تأليهه، كما في المثل الفرنسي الذي يتّخذ العلمانية الآن كمتراس سياسي وأيديولوجي لمجابهة ما يعتقد أنه خطر تغذيه المظاهر الدينية الإسلامية، بينما الخطر الأشد فداحة يكمن في تعميق الشرخ الديني والتعامل الفظ مع نساء ذهبن لممارسة السباحة أو الاستلقاء تحت الشمس، كأنهن مصدر التهديد الذي يحدق بثقافة الجمهورية الفرنسية وقيمها.
الخطر في مكان آخر. إنه قابع في الذهنية العرفية التي تنظر إلى المواطن «غير الأصلي» على أنه من درجة ثانية أو ثالثة، فيتم تذكيره كل حين بلا فرنسيته الصافية: عد إلى موطنك الأصلي، ليكتشف لوهلة أنّ قيم الجمهورية والعلمانية والعدالة والحقوق المتساوية ليست أكثر من شعارات، وأنّ الاندماج الحقيقي عصيّ على التشكّل. وها قد جاء اللباس الساتر كي يكشف تهافت الخطاب العلماني واضطراب مزاجه!.