الآن يوجد بيننا من لا يتورع في اقصاء خصومه أو تجريحهم أو الاساءة اليهم بذريعة أو بدون ذريعة ، ويوجد بيننا من يسيء استخدام سلطته وصلاحياته لحساب قريب مرشح ، أو صديق مؤازر ، ومن يتغطى "بالغش” للوصول الى قلوب الناس ، ومنها فورا الى أصوات أكثر في الصناديق ، ومن يستخدم الصدقات والعمل الخيري "كرشوة” الفقراء ، ومن يستفز المشاعر الوطنية للحصول على حصة ما من كعكة السياسة والمنصب ، ومن يضع "وطنيته” ومبادئه التي لطالما أشهرها في كفة ، وفي كفة اخرى "الموقع” الذي يفترض أن يشغله.
هل نحتاج ، وسط هذه المناخات الى التذكير بقيم السياسة النظيفة ، وبأخلاقيات الوظيفة العامة ، وبالنماذج الوطنية التي ما زالت حية في ذاكرتنا.؟
هل نحتاج الى "موازين” جديدة ، نضع فيها نخبنا أمام امتحان "الاكثر” وزنا في كفة أخلاق السياسة والالتزام بمبادئها، والاكثر ايمانا بمصلحة البلد والاكثر "اقناعا” للناس ، والاكثر زهدا في المناصب والاغراءات والامتيازات.
طبعا ، نحتاج الى التذكير بالقيم السياسية النظيفة ، ونحتاج - أيضا - الى اعادة الاعتبار لاخلاقيات المواطنة ، وأخلاقيات العمل العام ، وأخلاقيات التنافس والتدافع والنقد والاختلاف ، واذا كانت مجتمعاتنا قد اصابها - فيما مضى - حالة من التدهور على هذا الصعيد وابتليت ببضع النخب التي سقطت "بالبراشوت” الى دوائر الفعل السياسي والاجتماعي ، فان استخلاص العبر مما انتهينا اليه من تيه وارتباك يفرض علينا اجراء مثل هذه المراجعات الضرورية ، والتأكيد عليها ، واقامة موازينها العادلة لكي نتمكن من رؤية خياراتنا ، ووضوح طريقنا ، وسلامة "اتجاه” بوصلتنا العامة.
في تاريخنا القريب ثمة نماذج وطنية يمكن ان نستلهم منها قيم الاستقامة وأخلاقيات العمل العام ، ممن تركوا في "ذاكرتنا” الوطنية "رمزية” خاصة للتجرد من كل مصلحة شخصية ، والالتصاق دائما بالناس ومصالحهم ، والارتفاع فوق "اغراءات” المواقع والاحتكام الى "نبض” البلد ، هؤلاء وغيرهم لا تذكرنا بهم "الثروات” التي تركوها ، وقد رحلوا فقراء ، ولا تذكرنا بهم "المواقع” التي شغلوها ، وانما القيم التي آمنوا بها ، والمواقف التي سجلوها والأخلاقيات الرفيعة التي التزموا بها حين مارسوا أعمالهم السياسية أو الادارية أو غيرها.
على مدى الاعوام الماضية انشغلنا بالسياسة ، وبالفساد المالي والاداري ، واختزلنا معظم مشكلاتنا فيما يمكن للسياسة ان تحققه من أمن ، وللاقتصاد ان يحققه من "رفاه” وتجاهلنا ميداننا الاجتماعي ، وما يحدث فيه من "فساد” وافساد ، واصبح - بالتالي - امننا الاجتماعي على هامش اهتماماتنا ، الأمر الذي أعفى الكثيرين منا من مهمة "الصلاح” التي هي الشرط الاول "للاصلاح” ، اذْ لا يمكن ان نتصور بأن اصلاح السياسة او الاقتصاد او غيرهما سيقدر له ان ينجز بدون افراد "صالحين” في ذاتهم ، وبدون مناخات اجتماعية "صالحة” وبدون ضمائر حية وصالحة ، تستطيع ان تتحرك وتفرض نماذجها واخلاقها وسلوكها ، الى جانب "تشريعات” رادعة وحازمة تقاوم الانحلال وتعاقب "تجار” الفاحشة وأصحاب "التسفل” الاخلاقي ومروجي الرذيلة، وعن صور انحراف اخرى هدمت اسراً وشردت اطفالا.. الخ ، لا أريد ان اسأل: لماذا.. وكيف حصل هذا في مجتمع ما زال محافظاً ، وانما اتمنى فقط على الذين انشغلوا باصلاح "السياسة” ان ينشغلوا باصلاح "التدين” واصلاح "المجتمع” في بناه الاجتماعية والاخلاقية وباصلاح "التعليم” ومناهجه التي عجزت عن حماية ابنائنا من السقوط في هذه الجرائم.
صحيح ان الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، بمعنى ان الحكومة -الدولة ان شئت- مسؤولة عن هذه المسألة ، من خلال تجفيف منابع الانحراف والغلو والتطرف و الفساد بما يلزم من تشريعات وعقوبات ومن ايجاد مناخات سليمة تجنب الناس الوقوع فيها ، ولكن الصحيح ايضاً ان الناس (النخب الدعوية والثقافية والناشطين في مجالات حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل.. الخ) مسؤولون ايضاً عن هذه التراجعات التي اصابت قيمنا واخلاقنا ومسؤولون ايضا عن اصلاحها.
كيف؟ سيطول الشرح - بالطبع - ولكن يكفي ان نصرخ من أعماقنا للتحذير مما يجري ، فالحفاظ على الاخلاق والفضائل في مجتمعنا يفترض ان تكون "اولوية” تتقدم على ما سواها من اولويات.