شاحب الوجه كبقية المزارعين رَجَعَ الى بيته بعد أنْ بيعَتْ خضاره بسعرٍ زهيد ,وما زال المبلغ المالي المترتب على ضمان الارض والمتراكمِ ايضاً منذُ سنتين يقض مضجعه بعد انْ قَطْعِ الوعود بتسديده هذا الموسم.
في المساء, حقيبةٍ قديمة مهترئة ورثها عن جده الرمز الزراعي للعائلة يُخْرِجُ منها اوراق و فواتيرَ ودفترصغير دوَّنَ فيه حساباتهِ المتعلقة بزراعته ,يجمعُ ويَطْرَحُ ويُقسِّم مئات المرات ويخرج دائما خاسر, لقد اقتنع انه خرج خاوي الوفاض مرة اخرى كموسمه المنصرم في الوقت الذي تنتظرهُ التزامات عائلية مالية عاجلة اهمّها قسط جامعي لأبنته البكر...
مبكراً أمتطى مركبته العزيزة متجهاً الى صاحب الأرض في محاولة بائسة لاقناعه بتأجيل موعد التسديد, وعلى عتبات بيته الرخامية أغلقت أنانية ذلك الاقطاعي كل باب للرحمة والشفقة...فعاد حزيننا وهو يتأمل بحسرة مركبته التي لا شكَّ ستغادره قريباّ. ...
في عودته يخبرهُ زميل زراعي قديم (سائق بالأجرة حالياً) أنّ الزراعة تمنح مبالغ مالية للمزراعين تعويضاً للخسارات الهائلة جراء الصقيع... توشح وجهه استبشاراً ولم يكذّب خبراً...فأسرعَ بلا تردد الى تلك المديرية لتقديم الطلب كما يلزم.
ثلاثة ايام من الانتظار, يتلقى بعدها اتصال يعلموه فيه بأنَّ طلبه لم يستوف الشروطَ المطلوبة بشأن تلك التعويضات,وأنّ عليه ان يتنظر الخطة القادمة و سيخبروه انْ جّدَ بطلبه جديد....
عمَّت الفرحةُ بيت هذا المزارع المناضل بعد ان فاجئه ابنه بحصوله على معدّلٍ يؤهِّلُهُ ليسَ فقط لدراسةِ الهندسة الزراعية التي تمنَّاها والده بل أكثرَ من ذلك...
ستة أشهر مضت وتغير الحال....يُقدٍّم عاشق الأرض القهوة والشاي من كشكه الجديد المستأجر لهذا الغرض , الابن يَحْمِلُ عدة السبّاك (الموسرجي) الذي يتدرَّبُ عنده بعد أنْ لفت الانتباه بذكائه وسرعة تعلمه...امّا النصف جامعية ومثقفة الامن الغذائي و التي أوكِلَت لها مهَمّة مشتريات الخضار اليومية , فقد استطاعت مع امّها أنْ يجمعن مجموعة عشبية من أخضر الارض تكفي للموسم القادم بعيداً عن قساوة الاسمدة و همِّ المياه و كذبة التعويضات........
كعادته يفتحُ مساءً الحقيبة المعهودة التي خصصت مؤخراً لحسابات لكشك القهوة, فَيجمعُ ويَطْرَحُ ويُقسِّم لمرة واحدة فقط... ثم في نظرة سخرية يسأل من حوله : هل هناك من اتصل من الزراعة !!!!!!.