الحرب داخل الإسلام، بين الإسلاميين الراديكاليين والطوائف السنية والشيعية، تترك وراءها اليوم آلاف القتلى وملايين المشردين.
المشهد الذي يظهر فيه الكثير من المسلمين وهم على استعداد لمتابعة هذه الحرب الدامية، والتي طال أمدها، بسبب خلافات دينية طفيفة، لا يتسبب للأمريكيين بالرعب فحسب، بل وبالحيرة أيضًا. حيث إننا نجد أنفسنا نتساءل أمام هذا المشهد: لماذا يفعلون ذلك؟ وربما على نحو أكثر إلحاحًا: أين سينتهي هذا المسلسل؟
وواحدة من الوسائل الجيدة لإشراك أنفسنا بهذه الأسئلة هي أن نسأل لماذا لم نفعل نحن ذلك؟ الولايات المتحدة هي على حد سواء أكثر دولة متقدمة تدينًا، من حيث إن لدينا نسبة عالية من الانتماء والمشاركة الدينية، وفي نفس الوقت، الدولة الأكثر عنفًا، نظرًا لارتفاع معدل الوفيات بسبب العنف المسلح. إذن، لماذا يقوم الأمريكيون بإشهار الأسلحة بوجه بعضهم البعض لأسباب أخرى، ولا يفعلون هذا لأسباب دينية؟
في ذلك الوقت: الكاثوليك ضد البروتستانتيين. الآن: السنة ضد الشيعة
الإجابة تكمن في أصل الولايات المتحدة كدولة انحدرت من مجموعة من المستعمرات المسيحية التي تأسست عندما كان البروتستانت والكاثوليك في أوروبا الغربية، بما في ذلك الجزر البريطانية، يمزقون بعضهم إربًا بسبب الدين، ويدمرون البنى التحتية لبلدانهم، وهو ما يفعله السنة والشيعة في العراق وسوريا اليوم.
لقد شعرنا بالفزع لرؤيتنا مشهد قطع رأس مراسل صحفي أمريكي. تخيلوا إذًا مدى الذهول الذي كان سينتابنا لرؤية مشهد قطع رأس رئيس أمريكي! وهو المشهد الذي نفذه البيورتانس من بريطانيا عندما قطعوا رأس الملك تشارلز الأول عام 1649، في منتصف الحرب الأهلية الدينية التي استمرت تسع سنوات (1642-1651)، وكلفت إيرلندا، التي عانت من حكم إرهابي مماثل لداعش، وبريطانيا، من الأرواح ما هو أكثر نسبيًا مما خسرته الجزيرتان خلال الحرب العالمية الأولى.
وكانت حرب الثلاثين عامًا، (1618-1648)، في القارة الأوروبية، قد بدأت كصراع إقليمي في بوهيميا، تمامًا كما بدأ الصراع بين السنة والعلويين المحليين في سوريا، ولكن نيرانها وصلت فيما بعد إلى باقي أوروبا من بحر البلطيق إلى البحر الأبيض المتوسط. وإذا ما اشتركت كل من تركيا وإيران رسميًا في نزاع الشرق الأوسط الحالي، فسيكون هذا الصراع قد انتشر على نحو مماثل من بحر إيجه إلى الخليج العربي.
والانهيار شبه التام للمجتمع المدني في الأجزاء الأكثر تضررًا من أوروبا في أوائل القرن السابع عشر أدى إلى الطاعون وكذلك المجاعة، تمامًا كما أدى الصراع في الشرق الأوسط وباكستان إلى انتشار شلل الأطفال.
واليوم، تترك التحالفات السنية والشيعية غير الرسمية للولايات المتحدة الكثيرين في الشرق الأوسط متسائلين: "مع أي جانب تقف أمريكا؟”، حيث إنه، ولأن شيعة العراق يدعمون شبه شيعة سوريا الذين تعارضهم الولايات المتحدة، يعتقد كثير من الشيعة العراقيين بأن الولايات المتحدة خلقت "الدولة الإسلامية” السنية من أجل إسقاط الحكم شبه الشيعي في سوريا، حتى لو كان الثمن تقويض هيمنة الشيعة في العراق. وفي الوقت نفسه، العديد من السنة لاحظوا أن الولايات المتحدة قامت بوضع ولا زالت تدعم أول نظام عربي شيعي منذ قرون في العراق، وأنها تسعى بنشاط لتحسين العلاقات مع إيران الشيعية.
ورغم أن افتراض الرئيس أوباما بأن السنة والشيعة فقط هم من يمكنهم حسم الحرب بين بعضهم البعض، هو صحيح بالتأكيد. إلا أن السؤال هو: هل سوف يفعلون ذلك؟
لم يكن العنف بين المسيحيين محيرًا بطريقة أقل من العنف بين المسلمين اليوم. الملوك الكاثوليك قاموا أحيانًا بدعم البروتستانت ضد الكاثوليك الأخرين. وبينما اختفت القضايا الدينية في خضم المعارك الناشئة، ارتفعت أجندات سياسة القوة إلى الواجهة.
وربما الأهم من ذلك هو أنه، وتمامًا كما يرفض السنة والشيعة اليوم الاعتراف ببعضهم البعض كمسلمين، رفض البروتستانت والكاثوليك آنذاك تكريم بعضهم البعض كمسيحيين. وكما هو الحال الآن، كان الخطاب بين هذه الطوائف دمويًا جدًا، وكانت الإعدامات العلنية جزءًا من دعاية التخويف المتبادل. وكما هو الحال الآن أيضًا، وصف كل جانب قتلاه كشهداء، ووصف قتلى الجانب الآخر كوثنيين أو هراطقة.
وكما يفر المدنيون السنة من المناطق التي يسيطر عليها الشيعة في العراق وسوريا اليوم، ويفر المدنيون الشيعة من المناطق التي يسيطر عليها السنة، كان المدنيون من الكاثوليك والبروتستانت يفرون من بعضهم البعض بشكل جماعي خلال (وبعد) حرب الثلاثين عامًا.
وقبل نهاية هذه الحرب، كان عدد سكان ألمانيا الكبرى قد انخفض بمقدار الثلث أو أكثر. وعانت مناطق أخرى خسائر أصغر إلى حد ما. وحتى القرن العشرين، لم تعان أوروبا الغربية عنفًا مماثلًا لما شهدته خلال ما سماه المؤرخون لاحقًا بـ "حروب أوروبا الدينية”.
كيف انتهت حروب أوروبا الدينية؟
انتهت هذه الحرب عندما أدركت القوى الأوروبية الكبرى أن أحلامها المتضاربة، بأن تكون أوروبا إما بروتستانتية بالكامل أو كاثوليكية بالكامل، قد تحولت إلى كابوس من شأنه أن يعني نهاية القارة الأوروبية إذا لم يتم الاستيقاظ منه.
وبدأت هذه الصحوة مع صيغة السلام الديني في أوروبا، المعروفة بسلام ويستفاليا 1648، والتي نصت على أن "من يحكم، هو من يحدد الدين”. وجاء في هذه الاتفاقية أن صاحب السيادة في أي دولة، سواء كان ملكًا أو برلمانًا، سيكون له الحق في تحديد دين هذا البلد، من دون أن يكون لديه الحق في تحديد ديانة أي بلد آخر.
ولم تكن صيغة سلام ويستفاليا بأي حال من الأحوال إعلان كامل للحريات الدينية الفردية. حيث كان مواطنو كل دولة وفقها يتبعون دينيًا لديانة حكومة تلك الدولة. إلا أنه، ورغم ذلك، كان سلام وستفاليا بداية النهاية للحرب الدينية في أوروبا.
وعلاوةً على ذلك، أنجبت هذه المعاهدة ما يطلق عليه علماء السياسة حتى يومنا هذا اسم "نظام ويستفاليا”، والذي ينص على أنه، وحتى ضمن التحالفات أو الكيانات الكبرى مثل الأمم المتحدة، يجب الامتناع عمومًا عن التدخل في أي من الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
كما إن صانعي القرار في دول الغرب أصغوا بعمق لتجربة الحرب الدينية المؤلمة ولصيغة سلام ويستفاليا. ومثلما فعلت هذه الصيغة من خلال عدم سعيها لإحلال السلام الديني في أوروبا من خلال فرض نوع معين من المسيحية على القارة، قرر واضعو دستور الولايات المتحدة عدم تحديد دين معين الدولة. وبدلًا من ذلك، سمحوا للولايات بإبقاء المؤسسات الدينية الخاصة بها.
وقد حدث هذا في جزء منه بسبب هيبة الدستور، ولكن، وفي جزء آخر منه، بسبب رغبة المزاج العام بعدم تكرار ما حدث في أوروبا، وبسبب بزوغ فجر التنوير الذي عزز صراحةً التسامح الديني، ووضع القومية تدريجيًا محل الدين. الوطني بدأ يحل محل القديس. والموت من أجل بلد واحد بدأ يحل محل الموت من أجل دين واحد.
وعند هذه النقطة فقط، يمكن للأمريكيين البدء في الإجابة على سؤال: لماذا يفعلون ذلك؟
العنف والتقوى الإسلامية يرتبطان في داعش بنفس الطريقة التي يرتبط من خلالها العنف مع الوطنية في الولايات المتحدة.
ما بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، السنة والشيعة هم متساوون تقريبًا، ولذلك فمن غير المرجح أن أحدهما سوف يتمكن من تحقيق النصر التام والواضح والسريع على الآخر. وكما استنتج البروتستانت والكاثوليك من حروبهم الدينية، يجب على السنة والشيعة أن ينهكوا بعض البعض قبل أن يصلوا إلى نتيجة أن أيًا من الطرفين لا يمكنه تحديد دين الآخر في المستقبل. ويجب أن يصل الطرفان إلى هذا الاستنتاج من تلقاء أنفسهم، وليس من خلال أي تدخل أمريكي أو خارجي.
الفرز الشيعي-السني قد يكون ضروريًا
لقد كانت السنوات الخمسين الماضية هي الفترة التي ازدهر فيها التنوع السكاني بشكل هائل في الغرب. صديق مسلم باكستاني المولد لاحظ بسعادة مؤخرًا أنه في عام 1970، كان هناك فقط 35000 من المسلمين في كندا ومسجد واحد في تورونتو، بينما اليوم هناك أكثر من مليون مسلم في كندا و35 مسجدًا في تورونتو.
ولكن في الشرق الأوسط، شهد نصف القرن هذا من الزمن نقصًا تدريجيًا في التنوع الديموغرافي. حيث إنه، وقبل الحرب العالمية الأولى، شكل اليهود ثلث سكان بغداد. وحتى أواخر عام 1948، كان لا يزال هناك 150 ألف يهودي في العراق. أما اليوم، فلا يوجد تقريبًا أي يهود هناك.
وصحيح أن تأسيس إسرائيل أدى إلى إخلاء/وطرد اليهود بشكل واسع من جميع البلدان ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط. ولكن ليس هناك ما يبرر حقيقة أنه، وبينما شكل المسيحيون عشرين في المئة من سكان المنطقة في بداية القرن العشرين، هم يشكلون اليوم أربعة في المئة فقط من نسبة السكان، وهجرتهم من المنطقة تتسارع باطراد. حيث إن الأقباط يغادرون مصر، واليونانيون والأرمن غادروا تركيا. وقد تكون المسيحية قريبة من الانقراض تقريبًا حتى في بيت لحم.
ولكن ليس هناك ما يضمن أن عملية التبسيط الديني والعرقي هذه سوف تتوقف عند اليهود والمسيحيين، ولن تبتلع الشيعة والسنة كذلك.
سلام ويستفاليا أعاد رسم أجزاء من خريطة أوروبا. والسلام في الشرق الأوسط قد يفعل الشيء نفسه. سلام ويستفاليا، واستمرار التمييز الديني داخل الدول حيث تم تأسيس البروتستانتية أو الكاثوليكية، أدى إلى طرد أو هجرة الآلاف من الكاثوليك والبروتستانت من هذه الدول. وكانت النتيجة هي انقسام أوروبا إلى جيوب دينية متجانسة تقريبًا، بعضها كبير، والبعض الآخر صغير جدًا.
وبالمثل، سيكون تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات متجانسة دينيًا وعرقيًا مستحيلًا دون الهجرة الجماعية. وهذه الهجرة التي تبدو جارية بالفعل الآن، قد تكون الصيغة الوحيدة المتاحة عمليًا لتحقيق السلام هناك.
لقد ذبحت داعش أو طردت الشيعة والمسيحيين من الموصل، ولكن السلطات الرسمية في العراق تغاضت أيضًا عن الطرد العنيف للسنة من بغداد. وقد يكون من الضروري أن تستمر عملية الطرد المتبادلة هذه حتى يتم فصل هذه العناصر البشرية بالكامل تقريبًا، وبالتالي تنطفئ نار الحرب في نهاية المطاف.
وإذا كان النموذج الأوروبي يقدم أي استنتاج مفيد، فهذا الاستنتاج هو أن التنوع والتسامح قد يعود ببطء جدًا إلى الدول التي تظهر نتيجة عمليات "التنقية” الدينية والعرقية. السويد، على سبيل المثال، وهي أحد الموقعين على سلام ويستفاليا، لم تتخلّ عن الكنيسة اللوثرية كدين للدولة حتى عام 2000.