التسكع وصف نستخدمه للتدليل على حالة الهيام، أوالحركة غير واضحة الهدف والاتجاه. وكثير من الذين لا يعملون وغير مرتبطين ببرامج يومية، يتسكعون أو يتحركون في الفضاء العام والخاص على غير هداية، وبلا قصد. وفي الثقافة الغربية هناك شيء من التسكع الذي يوصف عند سؤال البعض عماذا يعملون؛ إذ تكون الإجابة على هيئة "hanging around".
في قرانا وبلداتنا الوادعة المحافظة، يوم كان العمل عنوان الحياة للصغار والكبار، كان للمتسكعين سمعة سيئة؛ فلا يخالطهم الناس، ولا يزوجونهم ولا يدخلونهم البيوت. فهم بحسب الوصف الشعبي "سرسرية"؛ مخالطتهم تدعو للشبهة، وأهاليهم يتنصلون من مسؤولية ممارساتهم، ويلقون بمسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم على تأثير رفاق السوء.
اليوم، وبعد أن انتقل 80 % من السكان إلى المدن والمراكز الحضرية، وانفك ارتباط الأسر بالزراعة والإنتاج، وتحولنا إلى العمل بأدوار ومهن تحت نظام الرواتب والأجور، أصبحت أعداد الواقعين خارج نظام الأجور وسوق العمل مئات الآلاف، وأعداد المحالين على التقاعد وهم في أوج العطاء أكثر من الشباب المتعطل.
فمئات آلاف الأردنيين القادرين على الإنتاج والعمل، لا يجدون المنافذ المناسبة لطاقاتهم؛ مما يهدر ملايين الساعات من الوقت، مع ضياع الفرص على الأفراد والمجتمع لاستخدام طاقاتهم في الخدمة والبناء.
عشرات آلاف الشباب والشابات لم يسبق لهم أن عملوا، ولا يوجد في الأفق أمل في حصولهم على عمل. وبعض الشباب المتعطل شارف على الأربعينيات من عمره، وما يزال ينتظر حظه أو دوره اللذين قد يغيبان معا.
الكثير منهم أسقطوا فكرة الزواج من قائمة أهدافهم المستقبلية، لتعثر أحلامهم في الحصول على العمل، والسير في مراحل دورة الحياة الأخرى التي تفضي إلى الاستقرار، وإضافة لبَِنات جديدة لبناء المجتمع.
الاستجابة للتحديات التي تخلقها الطاقات المكدسة في البيوت والشوارع والأحياء، لا ترقى إلى مستوى المطلوب. فللظاهرة علاقة بالعنف والجريمة، وتفشّي ظواهر المخدرات والانتحار، وغيرها من أمراض.
على الجانب الآخر، يحال الآلاف من الشباب على التقاعد من مواقعهم المدنية والعسكرية من دون وجود خطط يضعونها أو تضعها الدولة لاستثمار أوقاتهم وطاقاتهم ومهاراتهم التي قد يكون المجتمع في أوج حاجته لها. فالبعض يغادر موقعه في المؤسسة العسكرية، مثلاً، وهو في نهاية الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات من عمره، ويحصل على صفة المتقاعد وهو في أعلى مراحل استعداده للعطاء.
البعض يبدأ رحلة البحث عن فرص جديدة في السوق المشبع بالعمالة الوافدة وغير النظامية في أجواء ضبابية، ولا يجد إلا عروضا لأعمال هامشية بشروط لا تليق بالخبرة أو الكرامة. وما إن يتحدث أو يبدي رأيا بوضع السوق والقائمين عليها، حتى تُستل في وجهه تهمة مفادها أنه مصاب بداء اختار المسؤولون تسميته "ثقافة العيب".
لا أظن أن من عمل في القوات المسلحة برتبة عميد غير قادر على تولي إدارة مؤسسة مدنية، إذا ما أتيحت له فرصة الإفادة من بعض المهارات اللازمة للأعمال المدنية. ومن غير المعقول أن يتساوى الضابط المتقاعد برتبة قيادية، متوسطة أو عليا، مع غيره في إدارة حراسة المنشآت ومواقف السيارات ومكاتب المعلومات والنقليات في المؤسسات.
القوى العاملة لأي مجتمع، تتمثل في الطاقة والوقت والمهارات المتوفرة لمجموع السكان. وتقتضي إدارتها إيجاد برامج وطنية شاملة في مختلف القطاعات المدنية والعسكرية والأهلية، لاستثمار هذه الطاقة وتقليل الفاقد منها.
علينا أن لا نعامل طالبي العمل كمتسولين، نعدهم يوما بعد يوم بفرص قد لا تأتي. وعلى سياساتنا التشغيلية أن تقدر حاجات البلاد من العمل والعاملين، وتهيئ الشباب والشابات وكل القادرين من المواطنين أولا، قبل أن تستقدم العمالة الخارجية.
إن من غير المفهوم للأردنيين استمرار استقدامنا لمئات آلاف العاملين في الصناعة والزراعة والخدمات والمناطق الحرة، فيما أبناء البلد يتسكعون بلا عمل. هناك حاجة إلى برامج وطنية لخلق فرص عمل، وتهيئة الأردنيين لإشغالها؛ وفتح السوق للعمل الجزئي لطلبة الجامعات وربات البيوت والمتقاعدين، وإزالة العوائق كافة؛ الثقافية والتشريعية والإدارية، لتمكين الجميع من تحقيق شعار "فلنبن هذا البلد.. ولنخدم هذه الأمة".
إن تقاضي الأردني لضعفي راتب المصري أو السوري، أكثر جدوى للبلاد واقتصادها من أن تذهب الأموال لاقتصاد الدول المصدرة للعمالة على هيئة عملة صعبة، فتحرم أسواقنا من دوران جزء من ناتجنا القومي فيها.
في أدبيات الجريمة، هناك علاقة بين غياب فرص العمل وعدم توفر القنوات المشروعة لإشباع الحاجات، وبين معدلات الجريمة والانحراف.
الكثير من العاطلين عن العمل والمتقاعدين الذين لا نظام لحياتهم العملية، يجوبون الأحياء والشوارع والمقاهي بلا غاية أو اتجاه.