على نحو لافت، يصعب تجاوز «البروفيل» الذي يريد زعيم حزب حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي تكريسه، والظهور فيه عشية استعداد تونس لطي صفحة المرحلة الانتقالية التي طالت، والعبور للمرحلة الدائمة ذات المؤسسات الدستورية والانتخابات النزيهة والشفافة والحرة التي ستجري في السادس والعشرين من الشهر الجاري (الانتخابات الرئاسية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني القريب).
«بروفيل» الغنوشي، سواء اشتغل عليه شخصياً ام ساعده في ابرازه رهط المستشارين والمقربين، يبدو اكثر ذكاء وجدّية من ذلك الذي «واظب» الظهور عليه اخوان مصر، سواء في مكتب ارشادهم كليّ السلطة والاستحواذ، ام في موقع الرئاسة حيث خيّم التجهّم والوجوم والملامح الغاضبة التي ظهر بها مندوبهم في قصر الرئاسة محمد مرسي والبطولة التي حاول اصطناعها، فضلاً عن افتقار المواقف السياسية والعنترية التي اراد تسويقها (او دُفِعَ اليها)، الى أي خيال سياسي او فهم ولو محدود لتعقيدات المشهد الدولي وطبيعة موازين القوى ومدى القدرة على تحمل الضغوط او مواجهتها، والتي تحتاج الى قوة عسكرية واخرى اقتصادية وغيرها من الاسس والمتطلبات مثل التأييد الشعبي ونسبة النمو ومستوى التعليم والاستثمار والانتاج، التي لم يكن «النظام المصري» في نسخته الاخوانية ام في عهد حسني مبارك وسلطة المُغتال انور السادات في وضع يسمح له بان «يُظْهِر» شخصية او مواقف مستقلة، بعد ان سلّم سيادة البلاد واقتصادها ومؤسستها العسكرية الى الدولة العظمى «مالكة» ال99% من اوراق الحل لازمات الشرق الاوسط والقادرة (...) على إطعام الشعب المصري واخراجه من ازماته المعيشية والاقتصادية وتهالك بناه التحتية وإدخاله في عصر الرخاء والاكتفاء بعد ان يغادر نظرية الإفقار وبؤس الانتاج والصراع والطبقي والأحقاد التي تكمن في النظرية «الاشتراكية» والاقتصاد المخطط، على ما روج حارقو البخور للسادات وعصره «الانفتاحي».
ما علينا..
راشد الغنوشي.. يبدو انه استوعب الدرس المصري (الاخواني) جيداً وعميقاً، ولهذا اتخذ من المواقف والسياسات ما «انقذ» حكم الترويكا التي تحكم تونس شكلياً (الكلمة الأولى للنهضة) وما وجود المرزوقي في القصر الرئاسي وبن جعفر في رئاسة البرلمان المؤقت وحتى مهدي جمعة في رئاسة الوزراء الذي جيء به الى هذا الموقع بعد اصرار القوى اليسارية والقومية والليبرالية المعارضة لحكم النهضة سوى تسوية اقرب الى «قناع» ارتدته النهضة كي لا تدفع كامل «فاتورة» التغيير الذي كان سيكون جارفاً لو أصر الغنوشي - وبخاصة بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي - على التمسك بحكومة علي العرّيض أو عدم السير في حكومة كفاءات, في الوقت ذاته الذي كانت فيه جماعات الارهاب والتكفيريين تقيم في جبل الشعانبي وتضرب في اكثر من مدينة ومعسكر للجيش، وتتواصل فيه الاضرابات العمالية والمطلبية, ناهيك عن الصدمة الاقليمية بل والدولية التي احدثها سقوط حكم الاخوان في مصر، وبروز اجواء ومناخات تشي بأن نجم الاخوان قد أفل، وأن «نموذجهم» التركي يواجه ازمة متفاقمة تعكسها في وضوح، عُصابية اردوغان وسياساته المتخبطة والفاشلة التي لا تصيب هدفاً، بل تبدو كرصاصات مرتدة سواء في سياساته السورية أم المصرية, ناهيك عن تورطه في دعم منظمات وجماعات ارهابية وتكفيرية بالمال والسلاح وتوفير الملاذات الآمنة لهم.
الغنوشي اذاً.. يقود سفينة النهضة الى بر أمان مُفْتَرَض، ولهذا تتصدر تصريحاته التصالحية (أو الديمقراطية إن شئت) المشهد التونسي في غمرة الاستحقاقات الكبير الذي سيحدد الاوزان والحجوم الحقيقية في تونس, بعد أن سيطرت العواطف والافكار المُتَخَيّلة والمُتوَهَمة، على جموع الجمهور التونسي بعد اسقاط نظام بن علي, والتي اعطت النهضة حجماً اكبر من حجمها (ربما).. لهذا ايضاً يُبدي الغنوشي حذراً مسبقاً عندما يقول ان حركته لن تضع فيتو على احد، وهي ستتحالف مع القوى الثلاث او الاربع الرئيسية التي ستتقدم المشهد, وهو هنا لا يتواضع، لكنه يحفظ خط الرجعة ويواصل القول: أن حركته ستكون الرابحة «الاولى» في انتخابات المجلس الوطني.
سواء أحب المرء أم كره حزب حركة النهضة ورئيسها، باعتباره امتداد «وفيّ» لجماعة الاخوان المسلمين وأحد أذرعته الضاربة وغير القابلة - أقله في المديين القريب والمتوسط - على الشطب والالغاء في تونس ما بعد الثورة, فإن ما استطاع «الغنوشي» شخصياً أن يُكرّسه من قناعات ومواقف داخل حركته، وخصوصاً في ما تضمنه الدستور الدائم, الذي تم اقراره مؤخراً، والذي هو بحق دستور متقدم وعصري وغير مسبوق عربياً, يستوجب التنويه به والاضاءة عليه، بما هو قدرة على قراءة المتغيرات والتكييف معها, بعيداً عن الجمود والاستعلاء والادعاء بامتلاك الحقيقة وتكفير الاخرين واعتبار اعضاء جماعة الاخوان المسلمين, كأنهم من صحابة رسول الله أو أنهم يمثلون الاسلام الصحيح واصحاب الحق في منح شهادات الايمان لعباد الله.. على ما واصل اخوان مصر، على وجه الخصوص، التبجح به والزعم حياله، حتى جاءتهم الضربة القوية التي ما تزال تمنعهم من استعادة توازنهم.