يستنكر المجتمع العربي المحافظ، ناهيك عن المتشدد والطُهراني (البيوريتاني)، أن تنهض المؤسسة التربوية بواجبها في تبصير الأطفال بأجسادهم، ووظائف أعضائهم، وخصوصاً الجنسية منها، على اعتبار أن هذا التثقيف الجسدي ستصحبه، لا محالة، "حريّة جنسيّة تهلهل أخلاق المجتمع وتدمّر قيمه"! ومع أن هذا التّثقيف قد بات من أكثر الضرورات التعليمية اليوم في ظلّ الفوضى العارمة التي أطلقت وحش "التحرّش الجنسي" من عقاله الكبتِيّ، والذي يصل في حالات متزايدة إلى الاغتصاب (!)، إلا أنّ المضي في تجريم التربية الجنسية ومن يقول بوجوبها (بل إخراجه من الأخلاق والقيم والدين!)، لا ينمّ إلا عن جهل مطبق وقِصَر نظر بالغَيْ الاستفحال! فالتّربية الجنسيّة لا تعني بحال "التّخبيص" الجنسيّ أو المشاع الجنسيّ، بل تؤدّي، إذا صُمّمت تصميماً حسناً، إلى تنشئة الأطفال على احترام الجسد والعناية به، واستعماله استعمالاً سليماً، بالإضافة إلى تعلّم سبل الحفاظ عليه من الانتهاك والعدوان الداخليّ (النّفس) والخارجيّ (الآخر، سواء أكان هذا الآخر من المحارم والأقارب أم من الغرباء). إذ يُعنى هذا النّوع من التّربية بأن يكتسب الأطفال -وبما يناسب المراحل العمريّة للطفولة- عادات صحية ومفاهيم راقية وعلميّة عن الجسد وأنسنته، وعن التّناسل البشريّ والتّلاقح البيولوجيّ، الذي هو أسّ وجودنا الماديّ في هذا العالم، وجواب سؤال الأطفال الأبديّ: من أين أتينا؟
وبينما تغيب التربية الجنسيّة عن مناهجنا ومدارسنا وتفكير الأسرة العربيّة، يحلّ محلّها، في المجتمعات التي تُفرز التطرّف وأخاه الإرهاب، تربيةٌ مخيفةٌ من نوع آخر، تتلخّص في تنشئة البنات والصّبيان، ومنذ لحظة الوعي اللغويّ الأولى، على الجنس، ولكن المريض من مفاهيمه! فالبنت تُفهّم ليل نهار على أن تتجنّب الذّكر (حتى لو كان طفلاً في أول الكلام وفي أوّل المشي) وتُسيء الظنّ فيه، بحيث يتحوّل في ذاكرتها إلى وحش محتمل، بينما تُرعى شوفينية الذّكورة لدى الصبي ليتحوّل مع الوقت إلى مشروع مغتصب، وفي ألطف الأحوال إلى مشروع متحرّش. ذلك أنّ تشديد الأهل على تذكير البنت، وهي ما تزال في الرّضاع أو أكبر قليلاً، بخصائصها الجسديّة الأنثويّة "الضّعيفة والمُغرية" مقابل الخصائص الذّكوريّة ذات الحقّ المطلق في الصّولان والجولان، يوجد لديها رهاباً يُفضي إلى إحساس بالدونيّة وبالخطر المحدق من الذّكور لا يمكن علاجه إلا بمزيد من التّحصينات الخارجيّة القائمة على الفصل بين الجنسين وإحكام عُزلة الفتيات. يقابل هذا النّوع من تربية البنت غرزٌ منهجيّ في عقول الأطفال الصّبيان ونفوسهم لفكرة تفوّقهم الجنسيّ على الأنوثة، ولفكرة حقوق للذّكر لا تُناقش، ولفكرة أنّ الفتاة "عورة" وهدف هشّ للاقتحام! وهو ما تُعبّر عنه ثقافة "تحجيب الطفلات وزواجهنّ المبكّر"، التي تصور الطّفلة في سنّها المبكّرة تلك رمزاً للجنس، ولكن في أحطّ صوره، بدل رعاية خصائصها الإنسانيّة وما تحتاجه في مرحلتها تلك من لهو مدروس ولعب تربويّ ومجتمع رفاق من الجنسين، ونمو عَفِيّ للنّفس والعقل والجسد.
والمصيبة الكبرى أنّ تربية الأطفال على الجنس هذه (والتي تحلّ محلّ التّربية الجنسيّة السّليمة والصحّيّة والعلميّة)، قد أُقحمت على حياة مجتمعاتنا في عصور الانحطاط التي نشهد، مع جيش جرار من التّفاسير والأحاديث الموضوعة وآراء الفقهاء الغريبة في أرذل عصورهم، بالإضافة إلى تناسل مريب لفتاوى عجائبيّة، تنزع عن الدين وقاره، وعن المرأة والرجل إنسانيّتهما.. في خلق جبروت دنيويّ مصطنع يستند -رياءً وادّعاء- إلى جبروت الدين!
دعونا لا نفقد الأمل!!!