يعترف الجميع أن التعليم الجامعي يعاني من مشاكل عديدة أدت إلى تدني مستوى الخريجين، إضافة الى عدم المواءمة مع سوق العمل المتغير. ويقر العاملون في هذا المجال (عبر الندوات والمؤتمرات وأوراق العمل العديدة) بضرورة اصلاح نظام التعليم الجامعي وتطوير العملية التعليمية والتي تشمل الجامعات كافة (حكومية وخاصة)، وضرورة تصحيح وتصويب كل ما يتعلق بهذه العملية من مبانٍ وهيئة تدريسية وبرامج.
إن السؤال المحوري في هذا المجال يدور حول ما يمكن أن نسميه «استيراد نظام تعليمي من منطقة لاستخدامه في منطقة أخرى». كما هو معروف فإن أي نظام تعليمي عالٍ ينبثق من المتطلبات الاقتصادية (حاجة سوق العمل) ويتلائم مع البيئة الاجتماعية ومستوى تطور وسائل الانتاج. فلا يمكن، مثلاً، لنظام تعليم جامعي يعتمد على الوسائل الرقمية أن ينجح في مجتمع يفتقر الى هذه الوسائل وليس لديه بنية تحتية تدعم هذا الاستخدام.
إن الهدف الرئيس للتعليم الجامعي (أركز هنا على التعليم الهندسي) هو تزويد السوق بخبرات مؤهلة قادرة على إدارة ماكينة الانتاج بكفاءة، وتطوير الاساليب الانتاجية، وخلق منتجات جديدة تستطيع أن تنافس في الاسواق من أجل زيادة رفاهية المواطنين في الدولة. فإذا فشل النظام التعليمي في تحقيق هذا الهدف، أصبح الاستثمار في التعليم الجامعي هدراً لموارد الدولة، وعبئاً على ميزانيتها، وتدميراً للقوى البشرية الشابة التي لا تمتلك المهارات المناسبة لدخول سوق العمل بجدارة.
دعونا نناقش هذه المسألة من البداية. والبداية كانت في استبدال نظام التعليم الجامعي الذي يعتمد على مفهوم السنة الدراسية بنظام الساعات المعتمدة الامريكي والذي يعتبر الوحدة الاساسية في قياس تقدم الطالب الدراسي في التعليم العالي. ورغم أن نظام الساعات المعتمدة تم تبنيه في الأساس لتحديد أهلية (جدارة) استحقاق اعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات والمعاهد للتقاعد، إلاً أنه أصبح مناسباً لتطبيقه في الجامعات الامريكية لقياس مستوى تحصيل الطالب الامريكي. لقد مضى أكثر من قرن على تطبيق هذا النظام في الولايات المتحدة الامريكية، والآن، هناك جهات عديدة تطالب، لا بل تعمل على إعادة النظر في هذا النظام ليساير التقدم العلمي والتكنولوجي.
لقد لعب هذا النظام دوراً مهماً في العملية التدريسية لانه كان ملائماً للمجتمع الامريكي من حيث البيئة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي. ويمكن تلخيص هذا الأمر بما يلي:
أولاً: إن العلاقات الاجتماعية والمفاهيم السائدة في الغرب، تحدد أن الشاب أو الفتاة وعند بلوغهم سن الرشد (18 عاماً)، يصبح فرداً مستقلاً اجتماعياً واقتصادياً، وبالتالي، عليه أن يعتمد في الدرجة الأولى على نفسه في تدبير تمويل دراسته الجامعية. وهناك طريقان يمكن سلوكهما، وهما: القروض الجامعية، والتوفيق ما بين العمل والدراسة.
ويمنح نظام الساعات المعتمدة الطالب مرونة كبرى في التوفيق ما بين العمل والتعليم، حيث لا يلتزم الطالب ببرنامج محدد لسنة معينة، بل يمكنه تكييف هذا البرنامج وظروف عمله، إضافة الى أنه ملزم بتسجيل حد أدنى من الساعات في كل فصل، وليست لديه مشكلة في أن تمتد فترة دراسته الجامعية عدة سنوات حيث أت النظام يتيح له ذلك، عكس نظام السنوات حيث أنه ملزم ببرنامج دراسي محدد وسنوي.
ثانياً: رغم الصعوبات التي برزت عند تطبيق هذا النظام والمتعلقة بمعادلة المواد عند الانتقال من مؤسسة تعليمية إلى أخرى، إلا أنه كان مرناً في تسهيل عملية التجسير بين المؤسسات التعليمية ذات المستويات المختلفة.
ثالثاً: لا شك أن مستوى الطلاب الاجتماعي والثقافي في الدول الصناعية يختلف عن مستويات أمثالهم في الدول النامية. فالطالب في الدول المتقدمة يعيش في بيئة تسمح بتطوير القدرات والمهارات حيث المجتمع يقدم كثيراً من التسهيلات. على سبيل المثال، فالطالب هناك يتمتع بمهارات لا تتوفر لمثيله في الدول النامية، مثل المهارات الرياضية والسباحة وإتقان العزف على إحدى الالات الموسيقية ومهارات العمل اليدوي. وتسمح هذه الخلفية الثقافية والاجتماعية للطالب أن يتعامل مع نظام الساعات المعتمدة بوعي وإدراك، وبالتالي تكون عملية اختيار المواد مبنية على تسلسل منطقي يراعي التراتبية والاولويات.
رابعاً: يناسب نظام الساعات المعتمدة النظام الفيدرالي الامريكي، حيث تنتشر الجامعات في كل الولايات، وهذه الجامعات تقدم دعماً خاصاً لطلبة الولاية، وبالتالي، يلتحق الطلاب في كل ولاية بجامعات الولاية، حيث الالتحاق بجامعة ولاية أخرى يترتب عليه دفع أقساط أكبر. من هنا، فبيئة الطالب الجامعي هي بشكل عام هي البيئة نفسها كما هي في المرحلة الثانوية، وبالتالي تنعدم مشكلة التكيف مع بيئة جديدة.
خامساً: تقدم الشركات الامريكية برامج تدريب مكثفة ومتنوعة للخريجين الجدد. وسنوياً، فإن الشركات الكبرى تنظم ورشات ومهرجانات لاستقطاب الخريجين في السنة الأخيرة. عدا، عن تقديم دعماً مالياً لطلبة المشاريع لمساعدتهم في إنجاز ما يطمحون لتحقيقه، إضافة إلى ربطهم مع هذه الشركة أو تلك.
من هنا نستنتج، أن البيئة الاجتماعية والثقافية في الدول النامية (والأردن أحدها) هي بيئة غير حاضنة لهذا النظام، ومن الصعب الزعم بأن تطبيق مثل هذا النظام سيؤدي بالضرورة الى تطوير هذه البيئات.
ما هي سلبيات تطبيق هذا النظام في دولة كالأردن.
أولاً: أصبحت البيئة الجامعية غير متجانسة. وعادة، فإن إحدى وظائف الجامعة هي صقل شخصية الطالب من الناحية الاجتماعية والثقافية، وإنها بوتقة ينصهر فيها الطلبة عن طريق اختلاطهم في فصل دراسي طيلة اليوم مع بعضهم البعض، بدل أن يتنقل الطالب من فصل دراسي إلى آخر ضمن مجموعات مختلفة وأحياناً بفارق سن قد يكون كبيراً. إن مثل هذه البيئة، تشكل عاملاً مساعداً في عدم الانسجام، وبالتالي، تساهم في خلق العنف وتقود الى الفوضى، حيث يتميز الشباب في هذا العمر بسهولة إثارتهم وعدم ضبط غرائزهم، فيثورون لاتفه الاسباب في ظل غياب الألفة والصداقة التي تنتج بالتأكيد عن طريق الزمالة اليومية والتفاهم المشترك. من هنا يمكن الاستنتاج بأن هذا النظام التعليمي ساعد في ظهور العنف الجامعي بين الطلبة حيث ينعدم التفاهم بينهم بسبب ضعف الاختلاط والتقارب.
ثانياً: هناك مشاكل تتعلق بالتسجيل والمواد التي يختارها الطالب. لا تتوفر برامج كمبيوتر متطورة في معظم الجامعات بحيث لا يستطيع الطالب تسجيل مادة لم يتحقق المتطلب السابق لها. كذلك، نشير الى أن بعض المواد الأساسية (خاصة في الهندسة) يعتبر التسجيل فيها ضرورياً لفتح موادٍ أخرى دون أن يتطلب ذلك تحصيل علامة النجاح فيها، ويظل الطالب يماطل في تسجيل هذه المادة حتى فصل التخرج وبالتالي يلجأ الى تسجيل مادة بديلة. والأمر، ايضاً، يتعلق بمفهوم المادة البديلة والمادة المكافئة، وكل ذلك يعتبر من سلبيات نظام الساعات المعتمدة.
ثالثاً: هناك مشكلة حقيقية تتعلق بالانتقال من مؤسسة تعليمية إلى أخرى، ويلجأ الطالب إلى هذا الاسلوب عندما ينخفض معدله التراكمي، حيث تتيح له هذه العملية تصفير المعدل التراكمي والبدء من جديد في المؤسسة التعليمية الجديدة. تترافق هذه العملية مع ضرورة معادلة المواد التي درسها الطالب، ورغم وجود قواعد عامة متعارف عليها عند عملية معادلة المواد إلاّ أنه يحدث في كثير من الاحيان تجاوز ذلك رأفة بالطالب وأهله.
رابعأً: يتعلق الأمر هنا بمفهوم الساعة المعتمدة كوحدة قياس. من المعروف أن تدريس العلوم الهندسية يعتمد على التطبيقات والحلول والتعامل مع الأرقام. فالمادة الهندسية هي مادة نظرية (محاضرات) وتطبيقات على المادة النظرية. ويتم التعامل مع التطبيقات من خلال التجارب المعملية ودروس للمسائل العملية والمشاريع. والنظام المتبع هو اعتبار ساعة المحاضرات الاسبوعية لمدة 16 اسبوعاً (عملياً 15 اسبوعاً، حيث أن الأسبوع الأخير مخصص للامتحانات) هي ساعة معتمدة واحدة. ويخصص للمختبر ايضاً ساعة معتمدة واحدة، ولكن لا يوجد أي تخصيص لدروس المسائل العملية والتي لا تكفي المحاضرات لممارسة حل المسائل فيها. بينما في نظام السنة الدراسية يتم توزيع المادة على المحاضرات والدروس العملية والمختبر والمشاريع. والأمر كله متعلق بالحساب والكلفة. وتقليدياً، عندما ابتدأ تطبيق نظام الساعة المعتمدة في امريكا (ابتدأ التطبيق في عام 1906) فقد تم تعريف الساعة المعتمدة بأنها ساعة المحاضرة One contact hour وساعتان من العمل خارج المحاضرة لمدة 15 أسبوعاً. والمفروض أن الساعة المعتمدة في النظام الجامعي ينطبق عليها هذا التعريف، ولكن هناك صعوبة لا بل استحالة في كيفية مراقبة وتفعيل ساعات العمل خارج المحاضرة.
يتفق جميع العاملين في مجال التعليم العالي على ضرورة اصلاح وتطوير هذا التعليم بحيث تتوائم المخرجات مع احتياجات سوق العمل، والخطوة الأولى في نظري هو البدء بدراسة شاملة لنظام الساعات المعتمدة ومقارنته بنظام السنوات الدراسية لبيان حسنات ومساوئ كل نظام بالنسبة للأردن. وبشكل عام، ليس هناك ما يمنع استخدام النظامين معاً حسب البرنامج التعليمي، ولنا في تدريس الطب مثالاً على ذلك، وفي رأيي أن مستوى تدريس الطب الجيد في الأردن يرجع في إحدى جوانبه الى اعتماد نظام السنوات الدراسية.
وأنوه في هذا المجال، إلى أن بعض مؤسسات التعليم العالي الامريكي ابتدأت في مراجعة نظام الساعات المعتمدة وتطوير نظام يعتمد التعليم المبني على المنافسة Competency based education. والسؤال لماذا لا نبادر نحن في الأردن إلى أخذ زمام المبادرة ودراسة البدائل للمواءمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل. الزمن لا يرحم، وأعداد الخريجين في زيادة، وسوق العمل متغيرة والتنافس فيه شديد، ومستقبل الشباب يكتنفه الغموض، حيث يقذف النظام الجامعي هذا الشباب الى المجهول.
التعليم العالي وضرورة الإصلاح
أخبار البلد -