لكي لا نتفاجأ – كما حصل لنا فيما مرّ من تاريخنا - بجماعات او زعامات تتغطى بالاسلام، وتستثمر في مشاعرنا الدينية، وربما القوميّة ، تثير اعجابنا وتستحوذ على احترامنا ثم تنقلب عليها وعلينا، وتتحول الى "مصيبة” على امتنا، وخنجر بيد اعدائنا اتجاه "صدورنا” ، فان من حقنا ان نحرّك عجلات "عقولنا” لكي نخرج من دائرة "الدهشة” والاعجاب الى فضاء السؤال والبحث عن الدليل ومعرفة الحقيقة.
آخر ما يخطر الى بالي ان "اتهم” أو أن اصدر احكاماً جاهزة تجاه أي جماعة أو حركة أو شخص، فأنا –بالطبع- لست محققاً لا قاضياً، ولكنني بدافع واجب الضمير الذي تفرضه علي مهنة "البحث” في الوقائع والاحداث والصور عن "خيوط” الحقيقة ، احاول ان اقدم للقارىء العزيز جانباً من "المسكوت عنه” او جزءاً من الصورة التي اعتقد أنها تمرّ احياناً من أمام عيوننا دون أن ندقق فيها كما يلزم.
تسألني –إذن- عن المقصود من هذا الكلام، وسأجيبك على الفور بأنه "رجل” تركيا الغامض فتح الله كولن، وحركة "الخدمة” التي تحولت الى امبراطورية عابرة للبلدان والقارات، اما المناسبة فهي ذات شقين: احداهما شق الصراع المحتدم بين الرجل وحركته وبين اردوغان وحزبه ، وهو صراع بدأ قبل نحو عام، لكنه انتهى الى "الطلاق” بين الطرفين،اما الشق الثاني فهو محاولة الحركة التغلغل في عالمنا العربي والاسلامي بشكل لافت، سواء من خلال الاعلام او التعليم او البزنس، لدرجة دفعت الكثيرين (في المغرب وتونس وموريتانيا وغيرها ) الى التحذير مما جرى...وفتحت اعين الاخرين على خطورة نقل الصراع الديني- السياسي من تركيا الى خارجها على اعتبار انهم ليسوا جزءاً منه او طرفاً فيه.
قبل ان ادخل في تفاصيل الحركة وزعيمها استأذن في تحرير عدد من الملاحظات،اولها : ان جماعة "الخدمة” التركية نجحت حقا في ابهار المشاهدين والمراقبين داخل تركيا وخارجها بالنموذج الذي قدمته في مجال الخدمة العامة (التعليم،الاعلام،الاغاثة) كما نجحت في تقديم صورة "للاسلام الاجتماعي” ونأت بنفسها عن الانخراط في السياسة (ظاهرياً)، ومع ان النموذج الذي قدمته يستحق الاعجاب (تماماً كما تعجبنا نماذج اخرى لحركات ودول ديمقراطية هنا وهناك ) الاّ ان احداً منا لا يعرف حقيقة هذا النموذج ولا اهدافه ودوافعه...وفيما اذا كان لخدمة الاسلام والمسلمين ام لخدمة غيرهم،الملاحظة الثانية ان المشكلة بالنسبة لنا (دعك من الاتراك) ليست في الاعجاب،وانما في محاولات تبذلها الجماعة "لتصدير” النموذج وفي "قابليات” لدينا لاستلهام التجربة والذوبان فيها قبل معرفة خلفياتها او ممارسة النقد الواجب تجاهها او فهمها والتدقيق في اتجاهاتها الحقيقية ومصادر تمويلها،بمنطق العارف لا بمنطق المعجب فقط،، اما الملاحظة الثالثة فهي ان المجال الديني (بما فيه التعليمي والثقافي) في بلادنا العربية اصبح مفتوحاً وبلا رقيب لموجات من "الدخول” المفاجىء،وربما يشكل دخول جماعة "كولن” اليه امراً لافتاً،خاصة اذا عرفنا بأنها تعتمد اصلاً على "إسلام الاناضول” القائم على القومية التركية اولاً،وتحدد انتشارها في مناطق النفوذ تبعاً للقوميات التركية الموجودة في بلدان مثل القوقاز وآسيا الوسطى ولا تعتبر العالم العربي ضمن اولوياتها،كما انها في الجانب الديني تقدم تصوراً مختلفاً للدين يقوم على "التقية” لتحقيق اهدافها دون النظر لاحكام الحلال والحرام(الحجاب ودفع الرشوة مثلاً) الأمر الذي يثير مزيداً من الأسئلة حول "تحولاتها” على صعيد الانتشار في بلداننا،وخاصة بعد "صراعها الاخير مع اردوغان.
حين ندقق في سؤال الانتشار هذا نكتشف من خلال قراءة فاحصة لاهدافها وتجربتها ان ثمة خمسة عوامل –على الاقل- تقف وراءه،اولاً : تمييع حالة "التدين” لمواجهة حركة الدين في المجال السياسي والعام،فهي كحركة صوفية تتبنى فكرة "الاسلام الروحي” وتعتقد أنها تستطيع من خلال التغلغل في المجال الاجتماعي الى ان تصل لمرحلة "التمكين” السياسي،وهذا ما حدث تماماً في تجربتها الحالية،ثانياً نزع حالة "العداء الديني” في عالمنا العربي والاسلامي للمشروع الصهيوني وتعميم "التطبيع” مع المحتل تحت ذريعة ان الوقت غير مناسب لمواجهته واستعدائه، وقد تمثلت هذه النزعة في تبرع "جولن” السخي لأحد المدارس التبشيرية (2 مليار دولار) ولقاءاته مع الحاخامات،وفي علاقة الجامعات التي انشآتها "الجماعة” مع الجامعات الاسرائيلة،وفي ادانة غولن لسحب السفير التركي من تل ابيب،وفي رفضه لسفينة "مرمرة” حين توجهت لمساندة أهل غزة المحاصرة،ثالثاً: التأسيس لمجال ديني وسياسي خارج تركيا لخدمة الحركة مستقبلا اذا ما تجاوزت مرحلة "التمكين” وسيطرت (كما كانت تخطط) على مفاصل الدولة التركية،وهذا المجال بدأته في الدول التي يوجد فيها مسلمون من أصول تركية او غير عربية،ثم وصلت للمغرب العربي وانتهت بالمشرق العربي،رابعاً: استخدام مناطق النفوذ الديني والثقافي بما تمثله من شخصيات دينية وسياسية للاستقواء على المشروع الذي يمثله اردوغان،وتوظيف ذلك في معركة "الصراع” على السلطة بين "الخدمة” و”حزب العدالة والتنمية” او بين العثمانيّة التي يدعو اليها اردوغان وتركيا "القوميّة” التي يبشر بها فتح الله غولن، خامساً: تخويف العالم العربي من خطر الاسلام السياسي،واستخدام ذلك كمظلة للعبور والتغلغل من جهة، وتطمين الدوائر السياسية العربية بأنها جماعة دعوية ترفع شعار "الاسلام الاجتماعي” من جهة اخرى، ثم اغراء المجتمعات العربية بالمشتركات والمصالح التي تحملها كبديل "للاسلام السياسي” الذي اصبح غير مرغوب فيه "ومطلوباً” في هذه المرحلة.
اذن، من حقنا أن نسأل من هو "غولن” وما حقيقته، ومن هي جماعة "الخدمة”، وما هي مواقفها من الدين والسياسة،ومن المسلمين والعرب وقضاياهم (قضية فلسطين تحديداً) ومن الآخر ومعتقداته وسياساته تجاهنا..ومن حقنا ان نسأل ونعرف –ايضاً- حقيقة الصراع بين الجماعة وكل من حمل المشروع الاسلامي في تركيا ابتداء من اربكان وانتهاء بأردوغان..
الإجابة غدا إن شاء الله.