ثماني سنوات قضاها نوري المالكي في الموقع الاقوى عراقياً، رئيساً للوزراء، نجح في التخلص من خصومه ومنافسيه داخل حزبه، كذلك لم تتوقف مواجهاته مع مَنْ ظَنَ انهم يهددون بقاءه على رأس المشهد السياسي، وحاول–دون نجاح – ان يُبرّد علاقات بغداد المتوترة مع بعض دول الجوار، لكنه لم يلبث ان أدار ظهره، وراح يستعيد الخطاب «الناري» ذاته، وبالوسائل والمقاربات التي لم يتردد في استعمالها، سواء في ضرب جيش المهدي الذراع العسكري لـ (حليفه) الذي لم يكن ليصعد الى رئاسة الحكومة، لو لم يُصوّت لصالحه، مقتدى الصدر وكتلته، وكانت «صولة الفرسان» التي كسر فيها ظهر هذا الجيش الميليشياوي، ليمضي قُدُمَاً في تفتيته ثم تجميده بقرار من الصدد ذاته، نافياً عن نفسه (المالكي) نزعة المذهبية وصراع الطائفية التي فتكت بالعراق الجديد، الذي «حررّه» الاميركيون، ثم ليصيب نجاحاً يسجل له، اتفقت معه ام لا، وهو قدرته على الجمع بين صداقة «العدوين»، فهو في عُرف البعض دمية ايرانية، وفي نظر آخرين صناعة أميركية، لكنه وبمهارة، افشل اتفاقاً اقليمياً بين عواصم ثلاث مؤثرة، يقوم على دعم اياد علاوي بما هو رئيس القائمة الاكبر والأولى في انتخابات العام 2010 ليحُوّل «رياح» عاصمتين اقليميتين أخريين مؤثرتين لصالح سفينته التي كادت تجنح، وليؤتى به رئيساً للوزراء لمرة ثانية، استخدم فيها كل ما يتوفر عليه من قوة ودهاء وصبر، من اجل إبقاء خصومه وبخاصة اياد علاوي، في صحراء السياسة، جالساً في مقاعد المعارضة بلا فاعلية، بل لم يألُ جهداً من أجل «تفكيك» قائمة العراقية (قائمة علاوي) على نحو لم يستطع الاخير في انتخابات 30 نيسان الماضي أن يُبقي حتى على إسمها, فاختار لها اسماً جديداً هو «القائمة الوطنية» التي حلّت في المرتبة الخامسة, على نحو ينذر بأن مستقبل «الرجل» السياسي، قد بات في دائرة الخطر، اذا لم يستدرك الامور ويسعى لاستعادة «الشخصيات» التي انشقت عنه مثل صالح المطلك واسامة النجيفي, رغم أن هذين «الاسمين» باتا خارج القبول بأي صيغة تبقيهما في المرتبة الثانية, بعد أن «جرّب» الاول، معنى أن يكون نائباً لرئيس الوزراء، والثاني في الموقع «السنّي» الاول, وفق ترتيبات «المحاصصة» الطائفية والمذهبية والعرقية السائدة.
أين من هنا؟
أن يوعز المالكي لمفوضية الانتخابات بقبول اي اعتراض او طعن او احتجاج من أي «كتلة» نافست في الانتخابات, يعني ان الرجل لا يخشى الاتهام بالتزوير أو التدخل المباشر في العملية الانتخابية, ما يعكس ثقة في النفس، تضاف الى الثقة المفرطة التي أظهرها «قبل» الانتخابات, وقال في تحد–حدود الاستفزاز–أن إئتلاف دولة القانون الذي يرأسه سيكون الفائز «الاول»!!
حدث ما توقعه الرجل، الذي سيخوض «حرباً» جديدة, قد تكون أصعب واكثر قسوة من معركة الانتخابات, وبخاصة ان التأييد الشعبي الذي حازه, زاد من حيرة المراقبين والمحللين السياسيين, الذين يربطون بين المقدمات والنتائج، وسِجّل حكومة المالكي غير ايجابي على اكثر من صعيد, سواء في الانقطاع المتواصل للكهرباء وارتفاع نسبة البطالة وتدهور الخدمات أم في الفساد الذي عمّ الادارات الحكومية, وغدا ممأسساً, ناهيك عن الانفلات الامني وعمليات التفجير والقتل التي تحصد المزيد من الارواح واستيطان داعش في الفلوجة.. زد على ذلك خصومات المالكي والتراشق الاعلامي الذي لا ينتهي مع حلفائه المُفترضين من الشيعة, أم مع من يُفترض أن يكونوا شركاءه, ونعني بهم الكرد والسنّة..
هل ينجح المالكي في «تجميع» غالبية برلمانية (يحتاج الى 165 صوتا من اصل 328) تمنحه ولاية ثالثة رغم «اللاءات» التي تحدث عنها وتعهد بها اكثر من «زعيم» يقف على رأسهم مسعود برزاني واياد علاوي، فضلا عن عمار الحكيم وخصوصا مقتدى الصدر، حيث يرشح ان الاخير «سيُغامر» بالتحالف مع كيانات سياسية سنية واخرى كردية، لقطع الطريق على المالكي واجباره على الجلوس في مقاعد المعارضة، بعد «شقّ» كتلته؟
من المبكر «نعي» المالكي الذي اظهر دهاء ومهارة في القفز بين الالغام، وتفكيك تحالفات المعارضة دون تجاهل تأثير العواصم الاقليمية التي باتت في حال استنفار، بعد ان أفاقت من «صدمة» عودة المالكي «اقوى» مما كان، فيما كانت المؤشرات او قل التمنيات والرغبات والقياس الساذج على نتائج الانتخابات «البلدية» التي هُزم فيها المالكي، تؤكد ان الرجل سيحتل المرتبة الثانية او الثالثة، لكنه جاء «الاول» وبمسافة كبيرة عن الكتلة التي تليه..
جملة القول: إذا كانت الازمة السياسية التي تلت انتخابات 2010 قد احتاجت لتسعة اشهر، كي يتم الاتفاق على رئيس الحكومة، فان الاوضاع الراهنة الاكثر تعقيدا وخطورة عراقيا واقليميا، قد تُطيل من عمر الازمة وربما تعطل انتخاب رئيس جديد للجمهورية (بعد مرض طالباني واصرار الكرد على ان يبقى منصب رئيس الجمهورية من حصتهم) كذلك رئاسة البرلمان المكرسة للسنة، وهو امر «قد» يوفر فرصة للمناورة امام المالكي للمقايضة.. وإلاّ.